ثقافةصحيفة البعث

في تجربته السينمائية الأولى.. أيمن زيدان يضع العربة خلف الحصان

 

منذ أكثر من نصف قرن والسينما السورية تدور في ذات الدائرة المفرغة العاجزة عن الخروج من أسوارها، دائرة السينما التجريبية والانطباعية الهائمة في فضاء التشكيل الفني المرتبط بحالة وجدانية غير متماهية مع الواقع بحيثياته الزمكانية، سواء سينما القطاع العام التي مازالت تحبو مع تجارب متواضعة تعبر عن حالة وجدانية ضيقة بالمنظور الواقعي، أو سينما القطاع الخاص منذ انطلاقتها في ستينيات القرن الماضي إلى خفوتها في أواخر السبعينيات التي لم تستطع الغوص في الواقع وإخراج تفاصيله إلى النور بجرأة ومسؤولية، بل بقيت متقوقعة في هرطقات كوميدية ترفيهية تجارية شديدة الفجاجة.
وحتى الأفلام التي أنتجتها المؤسسة العامة للسينما وتناولت الحرب السورية الراهنة بقيت رهينة الانطباع الذاتي وغارقة فيه، ولم تلتقط صدى الشارع أو وجع الناس، لأن المشتغلين عليها تتلبسهم نزعة فلسفة السينما “دون الوصول بها إلى الحكمة”، وليّ عنقها لتخضع لتطلعاتهم ورؤاهم الإخراجية التنظيرية، أو ما يحلو للبعض أن يسميها “نخبوية”، فأنحصر اهتمامهم بالصورة باعتبارها بلاغة تخفي في تفاصيلها دلالات وايحاءات ورموز على المشاهد التقاط الفكرة المحتشدة فيها، لكن هذه الظاهرة وضعها أيمن زيدان جانبا في تجربته السينمائية الأولى كمخرج وكاتب سيناريو للفيلم الروائي الطويل “أمينة” الذي بدأ عرضه جماهيريا في حمص الأسبوع الماضي ليمهد الطريق لاتجاه جديد في السينما السورية أكثر واقعية، فقام كما أعتقد، بوضع العربة “خلف الحصان” في صناعة سينما جماهيرية لا نخبوية، يمكن اعتبارها رغم أنها باكورة تجاربه، الأكثر نضجا بين اغلب التجارب السابقة فقد استطاع أن يقدم شريطا روائيا طويلا يتجاوز الساعتين باحترافية عالية ومقدرة فائقة على التعامل مع الصورة السينمائية، والاشتغال على اللقطة الواقعية الفاعلة والمؤثرة، واختيار الموقع الذي يخدم الحكاية ويضيف عليها، والمواءمة بين المشهد الافتتاحي والمشهد الختامي بما يخدم الرسالة المطلوب إيصالها إلى المتلقي عن إزالة رماد الحريق عن بيدر الحياة السورية في دوائر قامت أمينة برسمها على بيدر القمح بجهد وإصرار.
يحتفي الفيلم بالأم السورية التي أكثر من ضحى وصبر في هذه الحرب التي التهم لهيبها حياة وأحلام واستقرار الكثير من السوريين، فعلى مدى ساعتين يأخذنا المبدع أيمن زيدان في رحلة الآلام مع الأم “أمينة”التي توفي زوجها تاركا لها ضريبة الفقر الطويل، ارثا ثقيلا عليها تحمله بصلابة وقوة في مجتمع لا يرحم الضعيف، دينا كبيرا عليها تسديده لأبي نزار الرجل الانتهازي، وابنا شابا أقعدته إصابة في الحرب وتخلت عنه زوجته الشابه لتأخذ الأم على عاتقها الاهتمام بكل متطلباته، وابنة في المرحلة الجامعية عليها حمايتها من أطماع رجل انتهازي بعمر والدها. امتحان صعب على أمينة أن تواجهه بصلابة واقتدار حالها كحال الكثير من الفقراء الذين أصروا على البقاء في أرضهم والتضحية من أجل استمرار الحياة فيها وهذا ما أرادت أمينة أن تقوله عندما مات ابنها الجريح بسبب رجل انتهازي قتله مرتين، وتزوجت ابنتها ممن تحب وعادت هي لتجر”مدحلة” القمح على البيدر لتؤكد على أن الأم لا تتقاعد وأن عطاءها لاحدود ولا نهاية له.
قدمت الفنانة نادين خوري واحدا من أجمل أدوارها تمكنت من الغوص فيه إلى أعماق شخصية أمينة لتخرج أسمى وأجمل ما لديها دون أي تكلف، عاشت الانفعال بكل حواسها، بالكلمة والنظرة والرجفة، والصمت، والاستنشاق لعبق الأحبة ونسيم الأمل، لتنقله إلى كل واحد منا، فتقتل اليأس الساكن فينا وتحرك الإحساس المكابر في أرواحنا.
دور لا يمر في مسيرة السينما السورية مرورا عاديا بل سيتوقف عنده الكثير من المنصفين، كما أنصفه جمهور ونقاد السينما في مهرجان الإسكندرية الأخير خلال مشاركة الفيلم في مسابقته الرسمية، ولم يحصل على أية جائزة لاعتبارات معروفة تحكم توزيع الجوائز في عالمنا العربي. لكنه يستحق الحفاوة التي استقبل بها جماهيريا، كما استقبله جمهور السينما في حمص متحديا صقيع الأجواء والأحوال، فالمشهدية الصادقة التي قدمها والبيئة التي تحدث بالنيابة عنها منحته الشرعية للدخول إلى قلب ووجدان كل من شاهده.
شارك في إبداع أيقونة “أمينة” الملحمية: قاسم ملحو وحازم زيدان ولينا حوارنة ورامز الأسود ولمى بدور ونجاح مختار وآخرين، إلى جانب مشاركة للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد بدور صاحب محل لبيع الأفلام وعاشق للسينما. ومشاركة لسماح قتال في التأليف.
آصف إبراهيم