ثقافةصحيفة البعث

مكتبات “الأرصفة”..أحوال شخصية وحبر حياة

لسنين طويلة، وفي كل الفصول، بقيت وما تزال مكتبات “الأرصفة” هي المزود الفعلي لأغلب القراء في المدينة لحاجتهم من الكتب التي يريدونها، سواء وجدوها صدفة بين تلك الكتب التي تفرد أجنحنها كنوارس فوق تلك الحافة أو غيرها، خصوصا في الأمكنة القريبة من جامعة دمشق، وذلك لتنوعها وغناها،وما يمكن العثور عليه فيها من كتب لم تعد موجودة الآن، وإن وجدت في المكتبات العمومية والخاصة، فسوف يكون سعرها المرتفع أول عائق يقف بين أولئك القراء وتلك الكتب، لذا نجد أغلب المهتمين بالقراءة يقصدون تلك المكتبات، يبحثون بينها عن غايتهم، والكتاب الذي يمكن شراءه من مكتبة ما بسعر 5000 ل.س مثلا، سيكون متوفرا بربع السعر فيها، وهذا أمر يعني معظم  شرائح القراء، سواء كانوا من طلاب الجامعات، أو من الذين شغفهم حب الكتاب، فصارت القراءة عالمهم الأكثر رحابة، خصوصا في الوقت الحاضر، الذي أصبح فيه اقتناء كتاب شكل من أشكال الرفاهية، عدا عن كونها –أي مكتبات الأرصفة- مصدر دخل للعديد من الأشخاص، الذين وجدوا بين أكوام الكتب تلك ضالتهم في العمل، ولا يستغرب أحدكم إن جالس بعض هؤلاء الأشخاص، ووجد أنهم يتمتعون بثقافة عالية ومتنوعة لا تُصدق، لقد قضوا حياتهم بين تلك الأوراق المتراصة بين دفتي كتاب، ومنهم من أخذها كمهنة عمل عن أبيه الذي رحل تاركا له تلك الكنوز، لتكون أيضا مصدر رزق له.

إلا أن الحال الذي بقيت عليه تلك المكتبات المتنقلة بين بيوت باعتها وأماكن بيعها وأحوال أصحابها، لوقت طويل من الزمن تغير اليوم، وما كان بالأمس قائما من هذا الحال (تنوع العناوين، جودة الترجمة، المحتوى الفكري القيم، طبيعة الأشخاص أنفسهم من باعة تلك الكتب وغيرها)، تغير تغيرا كبيرا، والمقصد الذي كان يؤمه العديد من الأشخاص المهتمين بهذا الشأن، إما أنه لم يعد موجودا، أو صار التعامل معه يشبه إلى حد ما، التعامل مع الألبسة المستعملة “البالة”.

“أبو يوسف” واحد من أولئك الذين بدؤوا قراءة واقتناء الكتب منذ سني مراهقته، حتى صار لديه مختلف أنواع الكتب والعناوين، إلا أن لقمة العيش بعد الزواج وقدوم الأبناء، بدلت أحواله، وعوضا عن كونه من مرتادي تلك المكتبات، صار واحدا من الذين يعملون بها، يقول أبو يوسف: “كان الألم يعتصر قلبي وأنا أنظر للكتب التي اقتنيتها كل عمري، ولي مع كل كتاب فيها قصة وحكاية، وهي تنزل من رفوف مكتبتي المنزلية، لتصير للبيع بعد أن ضاقت الدنيا عليّ كما ضاقت على الكثير منا، خصوصا في الأعوام العشرة الأخيرة المنصرمة، فراتبي كموظف، لم يعد يكفي، ولي نفس ربتها تلك الكتب، فصرت أنفر من أي عمل آخر، حتى اقترح أحد الأصدقاء فكرة أن أبيع الكتب المستعملة، فاستهجنت الفكرة حينها، حتى أنني بقيت لمدة من الزمن وأنا مقاطع لذاك الصديق الذي أسداني النصيحة، لكنني وبعد أن تقاعدت وجدت أن الفكرة التي طرحها معقولة جدا، بل ومهمة، وهل هناك أجمل من العمل في بضاعة لا تفسد ولا تبلى مهما قدم الزمان؟” وبعد عدة أعوام من العمل في بيع الكتب، وجد أبو يوسف نفسه محاطا بالعديد من الكُتاب والصحفيين والقراء الذين صاروا من أصدقائه، وعادت لروحه البهجة مرة أخرى باعتباره عملا ومتعة حسية عالية بالوقت ذاته، “القراءة متعة أولا” قال أبو يوسف، ثم أشعل سيجارته ، وشرد في عالم بعيد، عاد منه على صوت أحد الفتية، الذين مروا بالمكان بصخب:”كان لدي قرابة الـ 10 آلاف كتاب، كل واحد منها عزيز على قلبي جدا، كنت اعتني بها كما لو أنها أطفال لا كتب، لم أقبل يوما أن تنام في العراء، وكان أجار الشاحنة التي انقل فيها تجارتي مرتين يوميا من “جديدة عرطوز” إلى مركز المدينة، ليس بالقليل بالنسبة لما أكسبه من تجارتي، لكن عيني لم يغمض لها جفن ذات يوم، عندما اضطررت إلى تركها بعهدة أحد الأصدقاء لطارئ ما، الصديق مشكورا تدبر أمرها ليلتها، ولكن أنا لم اصدق متى صعد الصباح سلم الليل، حتى هبطت إليها وكأنني ذاهب للقاء حبيبة، اشتقتها”.

أبو يوسف لم يغير عادته في النزول إلى ذات المكان اليوم، لكنه خالي الوفاض من أحبته، فبيته وما فيه من كتب أكلته الحرب، والحزن الذي أصاب كبده على فراق رفاق الزمان، جعله وبعد فترة حداد حقيقية، يعمل على البدء من جديد في جمع الكتب، “إلا أن واقع اليوم مختلف، وحتى كتب اليوم ليست كما كانت” قال أبو يوسف وتابع:”الناس أيضا تغيرت أولوياتهم، والعديد من زبائني، إما هاجروا أو ماتوا، أو لم يعد لهم سبيلا إلي، وها أنا اليوم وبعد أن اشتعل الشيب في رأسي ووهن العظم مني، أعود لما كنت فيه بدأت، وهذا يصبرني نوعا ما، القصة أن مكتبتي كان فيها الكثير من الكتب المهمة ومن الطبعات الأولى، والتي تم طلبها مرات عديدة، لكني كنت أتراجع في اللحظة الأخيرة عن بيعها لتعلقي بها، حتى لو جاءني سعرا جيدا فيها، هذا صار الآن رمادا، وما يعزي قلبي، أن الكثير منها، صار هنا”، سكت أبو يوسف وهو يشير بشكل لا شعوري إلى قلبه، فعلاقته مع تلك الكتب علاقة عاطفية أولا، وإلا لكان أشار إلى رأسه.

مهند الشاب الذي بدأ فطامه مع قريته بسبب العمل في بيع الكتب فوق الأرصفة، جاء إلى دمشق لخدمة العلم في مطلع الألفية الثانية، واضطره بعده عن بيت الأهل لتواجدهم في محافظة بعيدة، أن يستأجر مع أحد رفاق السلاح غرفة ليقطنا بها، إلا أن تلك الغرفة المتعمشقة على أكتاف قاسيون ستغير حياته كلها “الغرفة التي استأجرناها مفروشة كما وصفها المؤجر، كان فيها كرسيان، وغاز صغير وفرشة وتخت، وعلى أحد الجدران استندت عشرات بل مئات الكتب التي قال لنا بأننا نستطيع أن نفعل بها ما نشاء، عندما اقترح الصديق إن كان يستطيع أن يجعلها سريرا ويضع عليها الفرشة، الكتب كما علمت، كانت لأخ صاحب الغرفة، قبل أن يهجرها الأخير ويهاجر خارج البلد منذ مدة طويلة”، مهند بدأت تناديه جنيات الكتب بصوت هامس حينا، وواضح حينا آخر، ليجد نفسه هو الذي أخذ شهادة التاسع “بطلوع الروح”، مرتاحا كأمير وهو في كل يوم مع كتاب جديد “بدأ الأمر كنوع من التزجية عن النفس، لكن الأيام والوحدة والفقر فعلت فعلها، فكان الكتاب ملجأي حتى وأنا أشعر بالجوع”، عندما أنهى الشاب خدمته، كان قلبه قد أصبح سليبا من وردة شامية، ومن تلك الكتب، نقش لها الكثير من القصائد التي نزلت سهامها في قلب الوردة، كما ينزل الندى على الكروم، وبعد العديد من الأعمال التي لم يستطع الاستمرار فيها، وجد أيضا تجارة الكتب المستعملة، عملا يستطيع من خلاله أن يؤمن إلى جانب ما سيمنحه الأهل، حياة أليفة له ولوردته “أم عربي”.

مكتبات الأرصفة بين واقع الحال، وما مضى من ذاهبات الأيام، لم تعد عوالمها كما هي، والمدينة الفاضلة التي كانت على شكل كتاب لأفلاطون، يسند “التكية السليمانية”، صار هو أيضا من بقايا هذا الرماد.

تمّام علي بركات