بين زمنين
عبد الكريم النّاعم
ليستْ مراجعة للزمن ولِما تكدّس منه في الذّاكرة، وليست حنيناً مجانيّا إلى الماضي، بل هو حنين ذوقيّ جماليّ، إلى ما كانت الأمور عليه، مقارنة بما نحن عليه.
أنا من جيل عرف في طفولته القرية، بما كانت تختزنه من لهفة إلى الفرح المفقود، ولذا كانت تبدو أفراحها طقسا نفسيّا، روحيّاً تُحقّق عبره توق الأحلام التي لا تجيء، وحين سكنتُ في المدينة تعرّفتُ إلى سهراتها، وأفراحها، ورقصها، وغنائها، الشعبيّ وغير الشعبيّ، وكنتُ، وما أزال أطرب للصوت الجميل، وللأداء المُفعَم بالإحساس. اسمحوا لي بهذه التّداعية الصغيرة، كان لي صديق يعرف الكثير من هواياتي، وبعد أنْ شبّ أبناؤنا، ودخلنا في مرحلة الشيخوخة، سألني ذات جلسة: “هل مازلتَ طروباً”؟، فقلت: “الذي يحبّ شيئا أصيلا لا يكرهه”.
كان الزمن زمن أبو العلا محمّد، وعبد الوهّاب، وأمّ كلثوم، وأسمهان، وفريد الأطرش، وهدى سلطان، وعبد الحليم حافظ، ورفيق شكري، ونجيب السرّاج، والقائمة طويلة، وأنا لا أستطيع تقديم كلّ الأسماء لما ستأخذه من بياض، وفي أواخر الخمسينيات بدأ يبزغ نجم فيروز والرحبانيّين، ووديع الصافي، وزكيّة حمدان، ومحمد خيري، وصباح فخري، وسحر، وكروان.. الخ.
أعتقد أنّه من المهم الإشارة إلى أنّنا، غالبا، فنيّاً، مانسير في خطّ دمشق القاهرة، وأعني بدمشق بلاد الشام كما كانت قبل سايكس بيكو، وفي هذا جنَف ما، فثمّة مدرسة الغناء العراقي، الذي أعرف الكثير عنه، وليس هذا مجال الكلام عليه، وهو مدرسة جديرة بالانتباه لما فيه من فرائد، و.. مدرسة المغرب العربيّ الكبير، والذي يشمل ليبيا، وتونس، والجزائر، والمملكة المغربيّة، وموريتانيا، هذه المساحة فيها فنّ شعبيّ نادر خاص بها، كما أنّها تشكّل خزّانا نادرا لِما يُسمّى (المالوف)، والذي هو استمرار لمدرسة الموشّحات الأندلسيّة.
أتساءل الآن، كما تساءلت قبل نصف قرن تُرى لماذا لا تُخصَّص سهرات تلفزيونيّة يُقدَّم فيها بعض تلك الألوان المُشار إليها، يشترك في تسليط الضوء عليها مَن يجيدون الكلام عن هذه الفنون، كما تُعرض سهرات للفرق المميَّزة من تلك البلدان؟! وتلك ليست قيمة ثقافيّة جماليّة فحسب، بل هي ذات دور قوميّ، في تقاطعاتها، وفي إحالاتها، وفي وحدة الجوهر الفنيّ فيها؟. لماذا كلّ هذا الهبوط في مستويات الغناء، بينما نعلم أنّ بيننا موسيقيّين، ومؤلّفي موسيقى مشهود لهم بالإبداع والأصالة والتجديد، فأين هؤلاء في وسائل الإعلام المرئيّ والمسموع؟!.
لقد استطاعت الدوائر الغربيّة المتصهينة أنْ تُغرِق حتى فنوننا بالهزيل، الصاخب، الذي يجعل الطرب متركّزا في الأقدام، وهزّ الأرداف، والصراخ الذي يقترب من حدّ الجنون؟!!.. نحن أبناء ذلك الموروث البديع في الغناء الذي فصّل فيه صاحب كتاب “الأغاني” الشهير، وأنا واثق من أنّنا لو طرحنا اسم هذا الكتاب على طلاب المرحلة الأخيرة في جامعاتنا لَوقف طلاّبنا موقف الحائر التّائه!.
للإشارة إلى ذلك الغناء، أتوقّف عند الأبيات الشعريّة التالية لأبي الحسن بن يونس، وهو يصف مغنيّة تعزف على عودها وتُغنّي.
غنَتْ فَأَخْفَتْ صوتَها في عُودها
فكأّنّما الصوتانِ صوتُ العودِ
غيْداءُ تأْمُرُ عُودَها فيُطيعُها
أبداً ويَتْبَعُها إتباع وَدُودِ
أندى من النّوّارِ صُبْحاً صوْتُها
وأرَقُّ مِن نشْرِ الثّنا المَعهودِ
فكأنّما الصّوتان حينَ تَمازجا
ماءُ الغَمامةِ وابْنةُ العنقودِ
فانظرْ إلى حساسيّة الاستماع، ومعرفة مواطن الاكتمال بين العزف والصوت، مع الإشارة إلى جمال صوت تلك المغنيّة العازفة، تُرى كم من الحرقات يستطيع هذا القلب أن يتحمّل؟!.
رحم الله القائل:
إذا ما مضى القَرْنُ الذي أنت فيهمو
وَخُلِّفْتَ في قَرْنٍ فأنتَ غريبُ
آآآآآآآآآآآآآآآه.. يا لهذه الغربة
بالمناسبة تعالوا لنغنّي: “يا جْمال الُبوبْعَة”..
aaalnaem@gmail.com