الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

ربيع الشعر.. ربيع الحياة

سلوى عباس

أطلّ علينا آذار حافلاً بالمناسبات، وتحديداً في الـ21 منه، حيث يبشّرنا ببداية الربيع وعيد الأُم التي ما زالت تحتضن الألم والأمل، ألم عالم كثرت فيه النزاعات والحروب، لتكون أماً مهجرة ونازحة وأماً للشهداء الأبطال الذين يكتبون بدمائهم تاريخ وطنهم، وفي وطني أمهات كثيرات يجسدن رمزاً بهياً لربيع العطاء، أمهات يستحققن فعلاً أن تحتفل بهن الأرض والسماء، فالرحمة لأرواح الأمهات اللواتي رحلن عن هذه الفانية، وألف وردة وسلام للأمهات اللواتي لازلن يجسّدن بعطائهن رمزاً للنبل والسمو.

ومن مناسبات 21 آذار يأتي الاحتفال باليوم العالمي للشعر ليذكرنا بقوة الكلمة المكتوبة والمتعة التي تجلبها بالحروف التي لا يخفت بريقها ولا يبطل مفعولها وإن مرت عليها عقود، حيث يعيد الشعر تأكيد إنسانيتنا المشتركة كما يخاطب القيم الإنسانية التي تتقاسمها كلّ الشعوب، فالشعر يحول كلمات قصائده البسيطة إلى حافز كبير للحوار والسلام والتسامح والحب والعطاء، لذا خُصّص يوم دولي لتتقاسم الشعوب أيضاً الاحتفال به.

ويتزامن الاحتفال بيوم الشعر العالمي وعيد الأم هذا العام مع مرور 100 عام على ولادة الشاعر السوري المتفرد نزار قباني، فكم هو جميل أن يكون يوم ميلاد شاعر الحب والمرأة في يوم من أيامها العظيمة هو يوم عيد الأم، هذا الشاعر الذي يمثل أيقونة من أيقونات الرومانسية العربية، قدّمها في عدد كبير من دواوينه الشعرية.

ولد الشاعر نزار قباني في فترة تاريخية حرجة، إذ كانت ساحة بيت أهله مكاناً لاجتماع الثوار ضد الانتداب الفرنسي، إلا أنه احتفظ بذكريات أخرى عن طفولته، فكان جمال البيت الدمشقي يسيطر على مخيلته، وحين حاول وصفه شبهه بقارورة العطر، فقد ولد مفتوناً بجمال الياسمين والنارنج والنوافير والعصافير، وهذا الانجذاب الأول للجمال، وسماع صوت النافورة بعيداً عن خطابات الثوار كان ينبئ بهذه الروح المدللة العاشقة للجمال ومتعته، أما علاقته المتطرفة بالمرأة فأرجعها إلى جيناته الوراثية لأنه “من عائلة تمتهن العشق، وإنه كأي فرد في هذه العائلة الضعيفة أمام مغريات الجمال، يعشق في الحادية عشرة، ويسأم في الثانية عشرة، وفي الثالثة عشرة يعشق من جديد، وهكذا، في دورة للقلب لا تشيخ ولا تكبر، لأنه قلب مولع بالجمال”.

وعن يوم ميلاده كتب نزار قائلاً: “ولدت في 21 آذار عام 1923 في بيت من بيوت دمشق القديمة، كانت الأرض هي الأخرى في حالة ولادة، وكان الربيع يستعد لفتح حقائبه الخضراء.. الأرض وأمي حملتا في وقت واحد، ووضعتا في وقت واحد، هل كان مصادفة يا ترى أن تكون ولادتي في الفصل الذي تثور الأرض على نفسها، وترمي فيه الأشجار كلّ أثوابها القديمة، أم كان مكتوباً عليّ أن أكون كشهر آذار، شهر التغيير والتحولات؟ كلّ الذي أعرفه أنني ولدت يوم كانت الطبيعة تنفذ انقلابها على الشتاء، وتطلب من الحقول والحشائش أن تؤيدها في انقلابها على روتين الأرض”.

قبل وفاته بفترة قصيرة أطلق اسمه على شارع من شوارع دمشق وكان سروره كبيراً بهذه اللفتة التي كتب عنها قائلاً: “شرّفتني المدينة التي خرجت من رحم ياسمينها، وسقتني من ماء ينابيعها، ووسدتني على ريش حمائمها، وأطعمتني فتافيت الذهب، وفتافيت الشعر، وفتافيت الصبابة، وعلمتني أبجدية الكلام الجميل، والطيران الجميل، والتحليق الجميل على أكتاف الدمشقيات”.

في 30 نيسان من عام 1998 توقف قلب الشاعر نزار قباني عن النبض وتوقف ينبوع بوحه الشعري وحكاياته الرومانسية مخلفاً وراءه رصيداً شعرياً وأدبياً يتوّجه رائداً مجدداً في الشعر والحياة ولتبقى ذكراه ربيعاً متجدداً بالحب.