الثورة عادت إلى أوروبا.. سياسية أم اجتماعية؟
عناية ناصر
في مساء يوم 14 تموز من عام 1789، أيقظ الدوق دي لا روشكو ليانكورت الملك لويس السادس عشر لإخباره باقتحام الباستيل. تساءل الملك: “لماذا، هل هذا تمرد”؟ لا سيدي. أجاب الدوق: إنها ثورة!.
ما يحدث في فرنسا اليوم هو أحد أهم التطورات السياسية في القارة الأوروبية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق منذ ما يقارب الثلاثين عاماً. إنه أحد أكثر التحديات جذرية والأعمق ديناميكية تواجهه الرأسمالية الأوروبية الحديثة منذ عقود، سواء من حيث الأسلوب -التعبئة الجماهيرية المباشرة، ودخولها الدراماتيكي إلى مسرح التاريخ- أم من حيث عمق الحركة، كما هو واضح في مطالبها، والتي تشكّك بشكل مباشر في النظام السياسي، وبشكل ضمني وربما بشكل واضح بالنظام الاجتماعي، ولاسيما أنها انتشرت بشكل متزامن في جميع أنحاء فرنسا بدلاً من أن تقتصر على العاصمة.
إذا أردنا العثور على حركة ثورية في أوروبا، تماثل السترات الصفراء من حيث الضخامة والعمق، ربما علينا أن ننظر إلى الوراء، إلى الفترة ما بين 1965-1975 أو كحدّ أقصى عام 1985، أي أننا سننظر إلى الوراء إلى الإضرابات الثورية العامة في فرنسا وإيطاليا (1968-1969)، و”ربيع براغ” (1968)، وثورة القرنفل في البرتغال (1974-1975)، وحركة التضامن في بولندا (1979- 1981)، وربما بدرجة أقل، إلى إضراب عمال المناجم البريطانيين الممتد لفترة طويلة في عامي (1984-1985).
هذه هي كل الحركات التي -وكل حركة على طريقتها الخاصة على الرغم من الاختلافات بينها- غيّرت بشكل عميق نظرتنا إلى العالم. وقد تميّزت جميعها بالشكل المباشر نفسه للعمل، حيث شارك الملايين من الأشخاص البسطاء بشكل مباشر، وبحقيقة أنهم شكّكوا جميعاً بأسس التنظيم الاقتصادي والاجتماعي ونظام السلطة في البلدان التي اندلعت فيها. كانت كل هذه الحركات، دون استثناء، وبطريقة أو بأخرى، مصحوبة بمطالب لإضفاء الديمقراطية على المجتمع.
تمّ إيقاف زخم هذه الحركات في وقت لاحق بسبب استسلام اشتراكيي ميتران، وانتصارات “النيوليبرالية” في أوروبا الرأسمالية (تاتشر- ريغان)، وانهيار النظام السوفييتي السابق، و”الثورات المضادة” في أوروبا الشرقية. “الثورات المضادة” التي، وعلى الرغم من أنها رفعت شعارات “ديمقراطية”، لم تؤدِ إلى أي مكان، ولكن أدّت فقط إلى انتقال القوة الاقتصادية والسياسية من “البيروقراطية الاشتراكية” إلى نخب استبدادية أولغارشية جداً وفي بعض الأحيان “مافياوية” واضحة، متنكرة بشكل حكومات ديمقراطية، في إطار من “الداروينية الاجتماعية” التي تخدم المركزية الدولية والولايات المتحدة.
يبدو أن السترات الصفراء تسرق الأضواء الآن على طريقتها الخاصة، لأن الحركات الأوروبية في الفترة من 1965 إلى 1985 تخلّت عن مطالبها الأساسية، وهي تفعل ذلك في محاولتها للردّ على سياسة التدمير المنظم للمجتمع الفرنسي، وعلى نحو أدق، للطبقات الدنيا والفقيرة. إنهم يفعلون ذلك في سياق الظروف الأوروبية والعالمية الحالية، التي تختلف اختلافاً جوهرياً عن ظروف تلك الفترة، في المصطلحين “الذاتي” و”الموضوعي”.
الأزمات الفرنسية والأوروبية والأزمة الاقتصادية العالمية
يُعتقد أن مصطلح “الثورة”، أكثر ملاءمة لما يجري في فرنسا، لأن ما يحدث في فرنسا لا يشكّل ببساطة تمرداً، فهو النتاج المباشر للأزمة “الأوروبية” متعددة الأوجه والمعقدة. وهي أزمة، بدورها، نتاج وعواقب عاملين: الأزمة الاقتصادية العميقة التي دخلت فيها الرأسمالية العالمية في عام 2008، والطريقة ذاتها التي تمّ بها بناء الاتحاد الأوروبي وتفعيله. ومن المهمّ تشخيص السبب الجذري للأزمة بشكل صحيح، والعوامل العالمية والأوروبية التي أجّجتها، لأنه إذا افترضنا أن المشكلة برمتها تعود إلى اليورو والاتحاد الأوروبي، متجاهلين الأزمة البنيوية للرأسمالية العالمية الحديثة، فإننا سنصل إلى استنتاج أن ما يحتاج كل بلد القيام به هو مغادرة الاتحاد الأوروبي، وبالتالي حلّ جميع مشكلاته. بالطبع، هذا لا يعني أنه يجب على بلد ما ألا يحاول مغادرة الاتحاد الأوروبي، إذا كان هذا هو المطلوب لإنقاذ نفسه، لكن هذا يعني أنه يجب أن يدرك أنه حتى مع المغادرة سيواجه جميع المشكلات التي أوجدتها القوة الهائلة التي اكتسبتها الرأسمالية المعولمة والتمويل الدولي.
إن معظم الانتقادات الموجهة إلى الاتحاد الأوروبي، من جهات مختلفة، صحيحة، لكنها ليست هذه المشكلة الإستراتيجية الرئيسية. والسؤال الرئيسي هو: ما هو نظام الغد الأوروبي وكيفية التأكد من أن النظام الذي سيتمّ إنشاؤه بعد الاتحاد الأوروبي سيكون أفضل وليس أسوأ؟!. وما هي السياسة والإستراتيجية التي يمكن، حتى الآن، في سياق الاتحاد الأوروبي الحالي، أن تخدم بشكل أفضل هدف إنشاء نظام أوروبي للغد مختلف جذرياً، وأفضل بشكل جذري؟!. ذلك لأن دولة أوروبية، وخاصة دولة متوسطة الحجم مثل فرنسا، قد تبدأ مسار التحرّر من روابط الرأسمالية المعولمة. ولكن ليس من السهل على أية دولة، حتى الأقوى في أوروبا، أن تحقّق ذلك بمفردها على المدى الطويل. سيكون التأثير الدولي للحركة الثورية الفرنسية ذا أهمية حيوية، ليس فقط على المدى الطويل، ولكن أيضاً على المدى القصير، على كلّ من الحركة نفسها وعلى الوضع في كل أوروبا. ويعتمد انتصار أو هزيمة حركة السترات الصفراء بشكل كبير على قدرتها في التوسع وإيجاد دعم فوري في بقية أوروبا. من ناحية أخرى، سيتأثر الوضع الأوروبي بأكمله بشكل مباشر وحاسم بما سيحدث في الفترة القادمة في فرنسا.ومع ذلك، لم نشهد حتى الآن أياً من القوى التي تريد أن تعرّف نفسها على أنها “يسارية راديكالية” في أوروبا -من الجناح اليساري لحزب اليسار إلى الجناح اليساري لحزب العمال– فهي تدرك تماماً أهمية ما يحدث في فرنسا، وأهمية تعديل نشاطها وفقاً لذلك، مع إعطاء الأولوية المطلقة لتنظيم الدعم للشعب الفرنسي، ولشرح ما يحدث في فرنسا لشعوبها، أو حتى تقليد الحركة الفرنسية من خلال بدء الحملات في بلادهم المناسبة والمتكيّفة بالطبع مع الظروف الخاصة التي تواجهها في كل بلد. لم تحاول هذه القوى إنشاء جبهة أوروبية موحدة، وبرنامج سياسي ومؤسسيّ، ليس فقط لليسار الراديكالي بل أيضاً لجميع القوى التي ستكون مستعدة للالتزام بإخلاص بمحاربة الدكتاتورية الشمولية لرأس المال المالي في أوروبا.
اختطاف فرنسا “من دونالد ترامب
إلى مارين لوبان”
ما نراه في الغالب هو مجموعات مختلفة وأحزاباً وزعماء طموحين، وغرباء معتادين على التواضع ونجوماً نرجسية “للتطرف والتقدم الدوليين”، و”مثقفين بارزين”، والذين، وفي لحظة ظهور أكثر الثورات المهمّة في أوروبا في السنوات الخمسين الماضية، يقومون بحسابات انتخابية سياسية صغيرة في ضوء الانتخابات الأوروبية، حسابات يجب أن تثبت أنها غير ذات صلة في سياق أوروبا التي تهتز بسبب أزمتها وفق الأسس نفسها. ونتيجة مباشرة للأزمة الاقتصادية العالمية لعام 2008، ولّدت الأزمة الأوروبية حتى الآن، وقبل التطورات الحالية في فرنسا، تدمير “خيانة ثورة” اليونان، والساخطين وحزب بوديموس في إسبانيا، وحكومة اليسار في البرتغال، والتصويت على البريكست، وصعود اليمين المتطرف في إيطاليا، وصعود حزب البديل في ألمانيا، و”الموت السريري” للحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني والحزب الاشتراكي الفرنسي، وصعود اليمين المتطرف لحزب ماري لوبان واليساري المتطرف ميلينشيون في فرنسا.
ومع ذلك، فإن التطورات في فرنسا تأخذنا الآن إلى مستوى آخر، وذلك بسبب العوامل الأساسية ذات الأهمية الكبيرة. فالشعب الفرنسي، وبعد أن أمضى عدة عقود يأمل في الحصول على بعض التحسينات من خلال عمليات الانتخابات والاستفتاءات، انتقل الآن إلى مرحلة التعبئة المباشرة والدينامية والجماهيرية للشعب. ثانياً، تشكك الحركة الفرنسية لأول مرة بشكل مباشر في النظام السياسي، وبشكل غير مباشر ولكنه واضح بالنظام الاجتماعي.
لهذا إن الأوليغارشية المالية التي تحكم أوروبا حالياً مع موظفيها -السياسيين والبيروقراطيين الأوروبيين- ليس لديها ردّ على القضايا التي أثارها اليونانيون والإسبان والبريطانيون والإيطاليون، بل والأبعد من ذلك، ما يثيره الفرنسيون الآن. لهذا السبب ولأسباب أخرى، فإن الأزمة الفرنسية ليست سوى بداية لمسار أحداث، بالطبع لا يمكننا التنبؤ بها ووصفها، ولا يمكننا أن نتوقع أين ستقود، ومع ذلك، يمكننا القول بشكل مؤكد من الآن إنها ستغيّر أوروبا والعالم جذرياً.
حقيقة لا تتطابق التطورات في فرنسا مع الأزمة العميقة المستمرة في الاتحاد الأوروبي، ولكنها تعكس جزئياً الأزمة التي تهدّد وجوده. فهذه التطورات تأتي، على الأرجح، عشية تفاقم جديد لأزمة عام 2008 الاقتصادية، وفي الدول التي لديها الآن وسائل أقل بكثير للدفاع عن نفسها عما كانت عليه عام 2008. ولكن كل هذا لم يكن كافياً، فإننا نلاحظ على المستوى الدولي أيضاً التدهور السريع في كل الأحداث العالمية المهمّة، بما في ذلك عودة ظهور خطر الحرب النووية، والأهم من ذلك، شبه المؤكد على البشرية. إن الحياة بمواجهة التغيير المناخي والتدمير البيئي، تتطلّب إجراءات جذرية فورية لمعالجة هذه القضايا المحدّدة تتجاوز حدود وقدرات النظام الاقتصادي والاجتماعي والدولي القائم.
الواقعية والرومانسية
يُتهم المتحمسون لحركة “السترات الصفراء” بنوع من “الرومانسية الثورية”، وهم يردّون على من ينتقدهم بأن هؤلاء المنتقدين ليسوا على علم بأهم المعلومات الأساسية، مثل ما هي المطالب الرئيسية لحركة السترات الصفراء. على النقيض من ذلك، كانوا لا ينظرون إلى ما يحدث بالفعل في فرنسا فعلياً، وبالطبع، فإن وسائل الإعلام هي المسؤولة عن عدم إفشاء كل المعلومات، ولكن ما يعتقدون أنه سيحدث على الأرجح!
كان السياسيون في اليونان، ويظن أن الأمر نفسه في فرنسا، قادرين على إلقاء بعض “الكلمات الطنانة الثورية” لمجرد جمع الأصوات، وهو حال كثير من السياسيين اليونانيين. لذا كانوا يحاولون تفسير الحركة الفرنسية من وجهة نظر البؤس الأخلاقي والفكري الحالي، وهو نتيجة هزيمة اليسار الساحقة لعام 2015 والطريقة التي حدثت بها. قد يكون ذلك أيضاً في الداخل، وقد يجدون صعوبة، بل وإزعاجاً، في المقارنة بين العظمة الحالية، وحال شعب مقرٍّ بالحياة التي يعيشها، المهينة والمهزومة، البائسة والذاتية، الفردية، الاجتماعية والوجود الوطني.
ومع ذلك، فإن النقطة المهمة شيء مختلف، فالرومانسية ليست الأمل في تقدم البشر، والناس في طليعة العملية التاريخية. لقد فعلوا ذلك في الماضي، وبالتالي يمكن أن يفعلوا ذلك مرة أخرى في المستقبل. لكن الرومانسية، وحتى الوهم الذي يحتمل أن يكون مميتاً، هي أن تمنح لأولئك الذين يحكمون العالم اليوم، القدرة على منع تدمير البشرية!. من الناحية الواقعية، فإن الفرصة الوحيدة لإنقاذ البشرية نفسها هي قدرتها على اتخاذ إجراءاتها الخاصة بهذا الغرض، والقيام بذلك، فعلياً، بسرعة كبيرة.
إن شعار “الخيال إلى السلطة” في أيار 1968 هو اليوم الواقعية الوحيدة القابلة للحياة. إن “الثورة”، بمعنى التغيير الجذري في النظام المهيمن، وبغض النظر عن الطريقة التي يمكن أن يحدث بها ، هي شرط مسبق لبقاء البشرية. لم يعد تدريس هذا النوع من قبل النظريات الاجتماعية والفلسفية أو الأخلاقية موجوداً، إنها تتحدّد بالوضوح القاسي ودقة المعادلات الرياضية والفيزيائية لعلوم المناخ.
إلى جانب ذلك، تحدث الثورات الكبرى في كثير من الأحيان عندما لا يتوقعها أحد، لأنه عندما يصبح نظام ما مكتملاً، يصبح “بطريقة ما”، “مغلقاً”، ولا يعود قادراً على ترك أي مجال لأي “إصلاح” أو “تصحيح ذاتي”. فالعامل نفسه الذي يجعل الثورات تبدو مستحيلة، وحتى لا يمكن تصوّرها، هو أمر لا مفرّ منه لحدوثها أيضاً!
يمتلك الوعي الإنساني العالمي هذه المعرفة، على الرغم من الجهود المتواصلة التي يبذلها المسيطرون لمحوها. هذا هو السبب الذي يجعلنا نكرم ذكرى أولئك الذين “هزموا” في التاريخ، أولئك الذين “خسروا”، مثل يسوع المسيح وسبارتاكوس، ونحن لا نحيي أولئك الذين صلبوهم لحماية النظام العام والمحافظة عليه وزمان قوتهم.
في هذه اللحظة بالضبط، وعندما “يغلق” النظام، لا يعود يسمح بأي تقدم ويهدّد بالدمار، أن إله الضرورة يكتشف من أعماق نفوس الناس العاديين، من روح المجهول العظيم.
ومن الصفات الإنسانية العليا الأخلاقية، وهي الدافع نحو الحرية والكرامة، والتعبير عن حاجة الإنسان لمعنى في حياتهم. ومن ثم، في تلك اللحظات المميزة من التاريخ، يستخدم هؤلاء الأشخاص البسطاء، بعيداً عن الأعباء والنفاق المعتادين للسياسيين والمثقفين المحترفين، وظائف الدماغ العليا للبشر والعقل والخيال، من أجل إيجاد حلول للمشكلات التي يواجهونها، كما فعل الفرنسيون منذ بدء حركة “السترات الصفراء”.
قد تبدو كل الثورات مشابهة لبعضها البعض، لكن كل واحدة تختلف عن الأخرى. هذه الثورة التي تكافح الآن للخروج من بطن أمها -الأزمة الأوروبية- لها ميزة لا تضاهى على الثورة الفرنسية الكبرى في عام 1789 وعلى الثورة الروسية في عامي 1905 و1917. فالأسلحة الفكرية أعلى بكثير، وهناك المزيد من المعرفة للاعتماد عليها، مقارنة بما كان متاحاً، والثورة في اليونان ضد حكم الكولونيلات، والعمال الروس في الثورات الماضية. علاوة على ذلك، لديها تجربة الإنجازات، وأيضاً لديها الانحطاط والمآسي التي رافقت كل حركات التاريخ الثورية الكبرى.
وإن السؤال الأساسي الذي يُطرح، وإن كان في شكل جديد، قد تمّ تقديمه، ولكن لم يتمّ حلّه بطريقة مرضية، من قبل الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789، والثورتين الروسيتين في عامي 1905 و1917 والعديد من الانتفاضات الشعبية الأخرى في أوروبا والعالم.