الهم القومي في “حرائق النعنع”
الرواية عندي هي هذا الكم الهائل من الحياة بكل مفرداتها وتوصيفاتنا لما هي عليه أو يجب أن تكون، وهي في الوقت ذاته ناقلة سرد عملاقة تفيض الحكايا من جنباتها وتعبر عن السلوى والشكوى حين امتلائها, ولأنها أي الرواية الفن الذي تجمع على عظمته الأمم، فهي تدعونا دائما لتقديم بنائها في كثير من الحذر والانتباه لكي لا يتفلت ركن في هذا البناء فينهار الكل بسبب الجزء، وربما الجزء الذي لانعطيه ما يستحق.
في “حرائق النعنع” رائعة الأديب الشاب إياس الخطيب أنت أمام أناس مسكونين بالهم القومي، وهم سعاة جادون للتخلص من إرث ثقيل من الفقر والحاجة,وربما كان في زمن الرواية وجغرافيتها هما وطنيا واجتماعيا، فجبل الريان ليس إلا شقيقا لجبال الكرمل وأعالي الجليل، ومنه تشرق الشمس لتغرب هناك مع تلهف أن لا يكدر الرؤية غاصب ومحتل، والعمل الفدائي آنذاك لم يكن ليضيق وينحسر بـأبناء الشتات، بل كان الشباب العربي من المغرب والمشرق يتباهىون بانتمائهم إلى إحدى المنظمات والتي كانت تمثل الاتجاهات السياسة من قومية عربية إلى ماركسية وتيارات دينية وغيرها، ففلسطين قضية العرب المركزية، لكنها في سورية تكاد تكون شأنا داخليا منذ النكبة، وجيش الإنقاذ وما تلا ذلك من حروب وهزيمة دفعت الشباب إلى التطوع في العمل الفدائي بدوافع شتى، ومنها الذاتي كما هو حال حمدان بطل “حرائق النعنع” وياسمين، تلك الفتاة التي تشبه فلسطين مثلما تشبه الريان في أنفته وصبره وتجلده.
سأضع معرفتي الجيدة ببيئة الرواية وحيزها الجغرافي وبكاتبها الصديق الغالي إياس الخطيب وبأهله جانبا، لأقول إني وجدت نفسي أمام مناخين من السرد والحكاية، المناخ الأمين على الواقع وما فيه من صدقية في نقل العقيدة والمؤيدات التي تدعم وبلغة محكية أضفت الكثير من الجمالية وتماسك البنيان، عبر عملية ترجيع وتداخل في الضمائر نقلت الرواية إلى أفاق رحبة حين اتكأت على المضمون القومي والاندفاعة العظيمة للفداء والعطاء والتضحية وإنكار الذات.
البيئة هي البطل الحقيقي في الرواية بما تمثله من أعلى القيم وأكثرها رسوخا في الوجدان الجمعي والسلوك المحافظ، فالمضافة جزء لا يتجزأ من البيئة مثلها مثل الثلج الذي يسد الطرقات والأبواب ويعطل الحياة إلى حين، لكنه يضع خميرة لصيف فيه خضراواته مثلما لمواسم السروة قمحها وشعيرها وبقولها.
أما الحكاية والموروث الشعبي المنقول شفاهة فهو معين لا ينضب للراوي وما عليه إلا أن يختار منه ما يقدر على نقل الفكرة ووصولها. بينما المناخ الآخر في الرواية والذي لم ينل الحظوة ذاتها لدى الراوي فهو المعسكر وحياة الفدائيين اليومية ومعاركهم وتدريباتهم والكثير من أحلامهم الذاتية، ذلك لأن الراوي مسكون بالهم القومي فكرا ، وليس أدبا فلذلك غلبت الشعارات على باقي مفردات السرد وتحول الراوي إلى النظرية على حساب الحقائق التي ظهرت بعد الهزيمة والتي استوجبت حربا شعبية للتحرير سقفها إزالة أثار العدوان واسترجاع ما احتله العدو، أما حمدان فيبدو تحرير فلسطين أقل الأهداف التي يحلم بها، ويظل شغله الشاغل أن يعود للسروة كبطل تمكن من تنفيذ مهمة حربية عظيمة ألا وهي أسر جنديين من جنود العدو ليتم التبادل عليهما.
مما لا شك فيه أن الراوي تمكن من وضع القارئ العارف في مناخ الجبل وقراه بعيد حرب حزيران، وما كانت تعانيه وما هو حجم طموح شبابه.
لكنه لم ينقلنا إلى أجواء معسكرات العمل الفدائي وما أكثرها آنذاك، والتي تمكن من التذكير بصورتها لدي الروائي كمال حمد في رواية له تتشابه مع حرائق النعنع وتتقاطع في بعض ملامحها العامة.
أبو زيد وأم زيد وحمدان وإخوته والشيخ عبد المعطي وسمير وسليم وياسمين هم شخصيات من الواقع، أما أبطال الرواية فلم تكتب لهم الحياة، بل كان قدرهم أن لا يعيشوا طويلا..
الأمكنة لم تحمل أسماءها وهذا حال معظم الروايات التي صدرت عن الريف العربي السوري الذي يشكل أهلوه أكبر جهاز رقابة على الكاتب، ومهما حاول أن يتفلت منهم إلا أنه واقع في شرك ظنونهم وتفسيراتهم، وكم من رواية لاقت الأمرين لأنها حاولت الاقتراب من هذا المسكوت عنه في حياتنا الريفية.
حرائق النعنع رواية إيجابية لم تذهب بعيدا عن الواقع والذي ربما ينعته كثيرون بثقافة الوهم، ولم تتصد كغيرها من روايات الريف لما يجري في الخفاء، بل كانت أمينة على عذرية الريف وطهارة عشاقه، حتى ما ورد عن ياسمين وحمدان الذين أحبا بعضهما بكثير من الوفاء والاشتياق ماتا ولم يعلما أنهما شقيقان.
وحتى سليم الفدائي الذي قتل بطلقة من مسدس سمير على نحو فجائعي ليلة عرسه من ياسمين هو نبيل شقيق ياسمين، ولم يعلم ولم تعلم أنهما شقيقان أيضا.
لقد كان الكاتب أمينا على الحكاية مثلما تداولتها الألسن في مجتمع محافظ، ولم نر تدخلا يستلزمه البناء الفني بحيث يكون موقفنا من شخوصه قائما على أساس من الانحياز إلى الخير أو الشر، من القبول بزواج ياسمين بعد كل ذلك الحب لحمدان أو رفضنا له.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن حب سليم وياسمين مخالف لطبيعة الفتاة الوفية الأمينة على حمدان والتي بدا وكأنها من بني عذرة وبدا حمدان أشبه بجميل، وهذا يعيدنا إلى ما يمارسه الواقع من ضغوط كبيرة على الفرد، فقد انتصر الواجب الأخلاقي عند حمدان على حبه؟ فأي عاشق هذا وأي عاشقة يتبادلان رسائل الغرام وكلها لوعة وشوق وندم على وعد وهما في مغارة هاربان من عدو يطاردهما؟.
وعلى الرغم من أن ياسمين تعرضت بفعل العدو إلى تشويه في الوجه جعلها غير ياسمين التي في بال ومخيلة شقيقها الذي يطاردها لينتقم من هروبها مع حمدان،لكن شقيقها نبيل وهو ذاته الفدائي سليم لم يتغير إلى الحد الذي جعل أخته لا تتعرف إليه.
الرواية ليست بنت الواقع وحده وهي ليست أداة تزيين هذا الواقع، بل هي من تخلق الواقع في عملية إبداعية تجعلنا نراه كما أرادته عين الكاتب,وهي هنا فعل محبة ووفاء للأرض والإنسان.
لقد أفلح الكاتب في نقلنا إلى تلك الخصوصية التي جمعت الفقر إلى جانب الصبر وهذا الحب الساحر العجيب الذي يضفي على الحياة ذاته لنقول مع من قال: في الحياة ما يستحق أن نعيش من أجله.
رياض طبرة