يخشى أن يدفع المواطن الثمن نتيجة تأكل قدرته الشرائية النأي الرسمي عن توضيح ما يكتنف سعر الصرف يفتح المجال واسعاً للتأويلات !!
يخشى أن يكون مرد ما ينتاب سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار والذي تجاوز حاجز الـ535 ليرة أمس، إلى غياب سياسة نقدية واضحة للتعاطي مع ما يحدث، خاصة أننا لم نستطع الوصول إلى أي تفسير حكومي رسمي يوضح حقيقة الأمر لا من قريب ولا من بعيد، ما سيدفعنا باتجاه محاولة الاجتهاد واللجوء إلى تحليل ما يطفو على السطح من مؤشرات ونتائج تعكس حالة من الإحباط العام، وما ينتظر المواطن من ارتفاعات جديدة للأسعار يصبح عندها الحصول على المواد الأساسية بمنزلة الحصول على نظيراتها الكمالية من جهة السعر الذي ربما يعجز الدخل عن مجاراته..!
تكالب
فهناك من يرى أن الأمر مرتبط بتوسع سيطرة الدولة على المناطق التي كانت خارج السيطرة، ما زاد بالنتيجة معدل الاستهلاك للسلع الأساسية، ومواد البناء ولاسيما الحديد المستورد لإعادة تأهيل وبناء ما شهدته هذه المناطق من دمار، وبالتالي ازدياد معدل استيرادها، وهذا الأمر شكل طلباً متزايداً على الدولار من السوق المحلية، مع الإشارة هنا إلى أن دخول مثل هذه المواد إلى البلد لا يعني بالضرورة زيادة منح إجازات استيراد، بل قد تدخل عن طريق التهريب الذي عادة ما يستنزف الدولار، ويضيع على الخزينة العامة للدولة ما يرد إليها من رسوم جمركية. وهناك من يرى أن السبب الرئيس يعود للمضاربة التي لم يتم استئصال رموزها بعد من سوق الصرافة، والبعض يعزو الأمر إلى تكالب العقوبات الأمريكية على سورية، وبالتالي ارتفاع فاتورة المشتقات النفطية لضمان تأمينها للسوق المحلية… إلخ.
انتهازيون
وهناك من ذهب أبعد من ذلك لدى اعتباره أن صعود سعر الصرف إلى هذا المستوى ليس حقيقياً، ولم يخضع لقوى العرض والطلب الحقيقية، وإنما جاء نتيجة عمل مضارباتي ينشأ بقرار، موضحاً أن مرونة اتخاذ القرار وانعكاس نتائجه هي أسرع بكثير من مرونة تحرك قوى العرض والطلب، مبيناً أنه حتى ينشأ طلب كبير يعمل على رفع سعر الصرف إلى حدود الـ540 ليرة فهذا يحتاج إلى وقت كبير، ولا يمكن أن يرتفع سعر الصرف إلى هذا المستوى بعد فترة ملحوظة من الاستقرار إلا بقرار اتخذ على الأغلب من قبل بعض الانتهازيين وتجار الأزمة لرفع السعر، أي أن الارتفاع كان نتيجة مضاربة وليس نتيجة لقوى السوق الحقيقية.
عدوى
من الطبيعي أن تلقي السوق النقدية وما يكتنفها من تخبطات بظلالها على الاقتصاد الحقيقي، إذ بدأنا نستشعر العدوى من سوق الصرف إلى سوق السلع والخدمات التي بدأت تشهد ارتفاعات بالأسعار، ستؤدي إلى إيجاد فجوة اجتماعية كبيرة تملي على الحكومة ردمها بزيادة الرواتب والأجور بنسبة لا تقل عن 100% على أقل تقدير، حتى يتوازى مستوى الدخل مع مستوى التضخم الناجم عن جنوح سوق الصرف، وهذا يقودنا للحديث عن مبدأ يسمى المضاعف الاقتصادي وهو أشبه ما يكون بإلقاء حجر في بركة ماء فينجم عنه دوائر تتوسع بحجم الحجر الملقى، وما حدث في الأزمة هو أنه تم إلقاء حجر في السوق النقدية وعمل التجار على مضاعفة تداعياتها والمضاربة بنتائجها بشكل أوسع فأوسع، ما أدى إلى انخفاض القوى الشرائية لليرة، فعندما ارتفع سعر الصرف وانخفضت قيمة الليرة، ارتفعت أسعار السلع والخدمات، أي أن الموجة انتقلت من سوق النقد إلى سوق السلع والخدمات بأضعاف مضاعفة، ما يؤكد وجود حراك مضارباتي تجاري بحت، وهذا ما يظهر نتاج الحكومات السابقة وما وعدت به من اقتصاد سوق اجتماعي سلمت مفاصله إلى فئة من التجار مدعومة من قبل بعض المفاصل التنفيذية في البلد، ربما تشاطرها الأرباح بشكل أو بآخر، لأنها لم تتدخل في السوق حقيقة في الوقت المناسب، وبالتالي فإن عدم التدخل إما تقاعس أو تواطؤ…!
زعزعة
لقد ساهم تفاقم الأوضاع المعيشية بزعزعة ثقة المواطن بالوضع الاقتصادي بشكل عام وبالليرة بشكل خاص، وسارع الكثيرون في مرحلة من المراحل إلى استبدال مدخراتهم بالدولار والذهب والعقار خشية انحدار سعر الصرف إلى أدنى درجاته، غير أن الذي حصل أنهم كانوا ضحايا لتجار الأزمات من المضاربين بسوق العملات، وهذا الأمر غير مستغرب على اعتبار أن هذه الفئة من التجار هي بالأساس انتهازية، ولم تخفِ وجودها يوماً في مفاصل اقتصادنا الوطني، ما يدفعنا للتساؤل حول مدى إمساك السلطة النقدية في مرحلة من المراحل بسعر الصرف، وتركه في مراحل أخرى، والأدهى من ذلك هو أنها لا تتدخل عند ظهور بوادر للارتفاع، وتتأخر بالتدخل لحين حصول هذا الارتفاع، علماً أن السلطة النقدية تعرف أن الحل بالتدخل وعرض الدولارات وكف يد المضاربين عن السوق، إلا أنها لم تستطع حتى الآن قمع هؤلاء المضاربين بيد من حديد..!
أين أبو البنوك..؟
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى حيثية مهمة تتمثل بأن المصارف المركزية الحديثة تعمل على مبدأ التنبؤ بالآجال القصيرة، وبناءً عليه تتخذ القرارات المناسبة لاحتواء أية أزمة مرتقبة بالأفق، أما عندنا فإن القرارات تأتي بعد وقوع الأزمة، أي أننا نتعامل بردة الفعل وليس بالمبادرة، فتدخل المصرف المركزي يجب أن يكون استباقياً شأنه شأن نظرائه في أغلب دول العالم، والتي تتبع لها مراكز دراسات تتنبأ بما ستؤول إليه الأوضاع في المستقبل القريب جداً، حتى لا تكون القرارات متأخرة، وبالتالي تفقد فاعليتها، فأداؤه الاقتصادي لا يختلف عن أداء أي مصرف آخر من المصارف العاملة في سورية، ويمكن اعتباره في أحسن الأحوال أنه بنك البنوك، نظراً لغياب دوره في رسم السياسة النقدية، وبالتالي لا بد من ضرورة إعادة هيكلته خاصة في هذه الفترة بحيث تضمن استقلاليته مالياً وإدارياً، مع وجوب وجود استراتيجية واضحة وفورية لإدارة الأزمة وأسعار الفائدة ومراقبة أسعار الصرف وضبطها ضمن حدود معينة، وإعطائها هامش مرونة أكثر.
hasanla@yahoo.com