في حلقي بحصة!؟
د. نهلة عيسى
كنت اليوم أريد الحديث عن أبي في عيد ميلاده الرابع بعد الثمانين, كنت أريد أن أكتب عن الرجل الرائع, النبيل, الجميل الذي أكتمل به, والذي أشعر أنه الوطن الذي أدافع عن الوطن من أجله, وأحتمي به من الخيبات والنكبات, واستعيذ بحبه من كل شيطان رجيم.
كنت أريد أن أخبركم كيف أن عناقي مع أبي لطالما وَلدَ الفيء, ولكن حلقي دائم الاحتقان, ليس بسبب الدخان, بل لأنه مسكون بالأسئلة المسببة للالتهاب: عن لماذا الغث في بلادنا سلطان الزمان, متبختراً, متباهياً, مرفوعاً عنه الحجاب والسؤال والعقاب, بل يكاد يرتقي إلى مصاف المبشرين الدائمين بالجنة (الدنيوية), وبالرضا المستدام, والعز والجاه, والمناصب, والرعاية, وبمنزلة اللحم سيد “الدست”, وباقي العباد “عظام”!؟
ومواقع أعمالنا على اختلافها, بل حتى بيوتنا وقلوبنا (أحياناً) خير شاهد ودليل, حيث المستحيل في شرايين تغيير المقصرين القاصرين, هو الواقع الطبيعي, والمعتاد المستساغ, وغير المأمول شفائه, مهما عاثوا خراباً, ومهما ارتكبوا من أخطاء, ومهما أثبتت الوقائع سوء إدارتهم لأعمالهم, وعدم قدرتهم على قيادة مهام كراسيهم في العمل, بينما التغيير أو التعديل, أو المحاسبة, هو الطارئ, والمستغرب, وغير المتوقع, وأحياناً المستهجن, إذا حدث “لا سمح الله”!!
وفي حال حدث ذلك الغريب المفاجئ, وتم تغيير أحدهم, فالتغيير لا يعني العزل, ولا الإقالة, أو العقاب, أو الحساب, بل يعني ببساطة شديدة نقله من رأس هرم إلى رأس هرم آخر, بغض النظر عن الصلاحية, أو التخصص, أو العلم, أو المعرفة, أو حتى التجربة السابقة في مجال العمل, فذلك مجرد تفصيل, لا يناقشه أحد في ظل هيمنة عدم شريعة الأساسيات والضروريات, وطغيان الإحساس المر, بأن صاحب الحظ سلطان!
وكلنا -لابد– في حياته العامة والخاصة, العديد من هؤلاء, الذين جالوا كل المناصب واعتلوا عروش من يستحقون, وهم لا يستحقون, وجلسوا على كراسٍ كثيرة ولمددٍ طويلة, بداية من المؤسسات العليا, ونهاية بمؤسسات الخضار, ولم أسمع يوماً أن أحدهم اعتذر لعدم الاختصاص أو الخبرة أو عدم القدرة, مادامت مزايا المنصب متوافرة: مكتب فخم, وسيارات فاخرة, وعلاقات تفتح كل الأبواب, وعزوة, وسلطة, وإيهام للآخرين بأنهم من الواصلين المنيعين!
والمشكلة, أن تسلط هؤلاء على معظم المفاصل الرئيسية لمواقع الأعمال والإنتاج والقرار, لا يخلق- فقط – حالة إحباط ويأس ومرارة, لدى المبدعين الموهوبين وأصحاب الاختصاص, بل يخلق–وهذا الأخطر- حالة وهم لدى هؤلاء السلاطين المحظوظين, بأنهم عباقرة زمانهم وفلاسفة عصرهم, وأن لا بديل عنهم, ولا نداً لهم في كل الأشياء! وهو وهم يتغذى ويتعاظم مع كل موقع ينتقلون إليه, وينقلون معهم إليه بلاطهم, وحاشيتهم, وأمراضهم وعللهم الإدارية والنفسية, وسلاسل فشلهم, المعلنة نجاحاً “قسراً” بختم المنصب, بل المناصب العديدة, التي تقلدوها تباعاً, واحداً تلو الآخر, وفشلاً عقب فشل, وكأنهم وصية المرحوم!
والحقيقة, أن الوهم كما هو لصيق بهؤلاء, فهو حقلهم وحلال عليهم, لأنهم عوملوا ويعاملون باعتبارهم ندرة, ومعظمهم نوادر, وأنهم جهابذة وعباقرة, والعديد منهم جاهل, وأنهم كفاءات وكوادر, والكثير منهم لا يصلح لأن يظهر في الكادر, رغم أن الوطن يعج بالمبدعين الراقدين تحت ركام التهميش والإهمال والتطنيش, والتطفيش أحياناً كثيرة! لذلك, الخلل الحقيقي ليس في هؤلاء المنعمين المبشرين, بل في غياب آليات للرقابة والثواب والعقاب, تضع كل فرد منا في موقعه وحجمه الطبيعيين, بالاستناد إلى علم هو كفاءته, وقدراته, وليس بالاتكاء على الحظ والواسطة والمحسوبية, ودعاء الوالدين, وإلا فستبقى أجيال وأجيال من الموهوبين الصادقين في حالة حسرة, أن أبو زيد ليس خالها, وسيبقى اللحم الحقيقي وليس المتوهم أو المصنوع رهين نومة الدست مع “الفشة والعضام”, ولا عزاء لأمثالنا المتوهمين أن الفيء يولد إذا تعانقت الأشجار!!