المسرح ملكاً
سلوى عباس
بعد ثماني سنوات حرب عانينا فيها ما عانيناه من الخيبات والأزمات التي ارتسمت على وجوهنا عنواناً لحزن يحصرنا في إيقاع رتيب، وجعلنا أسرى تداعيات لذاكرة موحشة وسوداوية لا تختزن إلا صور الألم التي تظللنا بكآبتها، فإننا نتوق للفرح والضحك، علنا نغسل بعض همومنا وأوجاعنا، كما شعب ملكة بريطانيا بطلة عرض “شكسبير ملكاً” لفرقة المسرح القومي في اللاذقية الذي استضافته مديرية المسارح والموسيقا في دمشق على مدى يومين لم يكونا كافيين لإشباع رغبة الجمهور الذي غصت به صالة مسرح الحمراء، وهذا ما كان حيث استطاع العمل وعبر ساعة من الزمن أن يقدم لنا عرضاً كوميدياً ممتعاً عبر لعبة حملت إسقاطات راهنة على واقعنا الآن وما تعيشه مؤسساتنا من رتابة وروتين قاتل، وهذا الصراع الذي ينشب بين شكسبير كاتب بريطانيا الشهير بتراجيدياته التي يراها تعبّر عن حال الشعب وقضاياه وأنها الأسمى والأكثر التصاقا بالحياة، والملكة التي تضطر لاستقدام من يكتب ويمثل الكوميديا من فرنسا ووقع اختيارها على الكاتب الفرنسي الشهير موليير الذي لم يستطع التفوق على شكسبير فيعترف الجميع به ويتوجوه ملكاً على عرش المملكة.
يعبر عرض “شكسبير ملكاً” للمخرج لؤي شانا في مضمونه عن القيمة الإنسانية والحضارية للمسرح حيث يجتمع الإبداع ليوقد شموع الأمل التي تنير الطريق لعشاق هذا الفن العريق، وليكبر في عيون من سهروا الليالي من أجل إبقاء شعلته متقدة رغم كل الظروف التي تعرّض لها، فعبره ترفع أشرعة المحبة والوداد، وتتوهج قناديل الإبداع والتلاقي الثقافي التي يرنو أصحابها لأفق مفتوح على المدى، مما يؤكد على استمراره كرسالة إنسانية تعكس الواقع بكل قضاياه وإشكالاته، وأنه مازال يخلق لنا فضاءات تحقق انتماءنا الإنساني والمصيري، ويشكل توازننا الداخلي، ويبقى فناً تحريضياً، وحواراً مفتوحاً بلا حدود للانفتاح على الآخر.. فن يشتبك مع الذات الإنسانية بسرعة خاطفة، ويهيمن عليها ويستدرجها للبوح، فالعمل المسرحي هو حالة عناق حقيقي لجوهر الحياة يعمل المهتمون به على أن يكون منبراً لقضايا الوطن، ولعل أهم ما في استضافة عرض “شكسبير ملكاً” والتي نتمنى أن تشمل الفرق المسرحية لباقي المحافظات هو الاطلاع على تجارب فنانين يقتصر حضورهم وإبداعهم على نطاق محافظتهم وجمهورها، مما يجعلهم غائبين عن ذاكرة المتلقي في دمشق الذي اقتصر دور المسرح بالنسبة له على عروض العاصمة، وهذه الاستضافات تؤكد على استمرار شعلة المسرح متقدة دائماً لتضيء كل زاوية من زوايا سورية، وقد حقق العرض الضيف عبارة “لم يبق أمكنة” حيث لم يتمكن الكثيرون في اليوم الأول من حضور العرض، فكانوا يغادرون ليعودوا في اليوم الثاني بوقت أبكر، مما يؤكد على دور المسرح في محاربة القبح والموت بالجمال والإصرار على الحياة، عبر وظيفته الإنسانية والحضارية والثقافية، فالعمل المسرحي لا يقتصر على جمهور النخبة فقط، فالمسرح الواقعي المقدَّم بإطار محلّي شعبي تبقى دلالاته راسخة في ذهن المتفرّج عموماً، لأنّها تجسّد حقائق معيّنة على خشبة المسرح الذي ينحّي جانباً كل شيء يفرّق بين البشر، ويدعم كل ما هو مشترك بينهم، ويكشف عن القلب الذي يتقاسمونه، مما يجعله أفضل وسيط للسلام. وهو أيضاً -حسب الراحل سعد الله ونوس- المكان النموذجي الذي يتأمل فيه الإنسان شرطه التاريخي والوجودي معاً.