لغز الصراخ ؟؟!!
إن كان للأزمات قوام وشكل وطعم ورائحة، فغالباً ما يكون في خلفياتها ما هو جدير بالاستنتاج والرصد، إلّا أن العبرة تكمن في القدرة على الالتقاط، ولعلّنا نملك الكفاية من ملكات القراءة الصحيحة للوقائع، خصوصاً لما يتخفّى فيما بين السطور، هكذا عهدنا أنفسنا كسوريين على مر سنوات مواجهاتنا، مع أعداء أو أنداد اختلفت هوياتهم أو “سحناتهم” وإن خضعوا لذات المرجعيّات.
هنا وليس بعيداً عن تفاصيل اليوميات الراهنة الصعبة والقاسية على المواطن والدولة، ثمة ما يجب الوقوف عنده، ولو بقليل من الاسترخاء، وهي دعوة للجميع دونما استثناء، رغم طقوس الشد العصبي والاختناقات التي تعصف بنا على مستوى أساسيات هذه الحياة، وهو الانعطاف الحاد في دواعي وأسباب “الصراخ” والصخب والضجيج الذي يتردد وسط مظاهر الزحام هنا والتزاحم هناك، حتى ولو بدا المشهد ساخناً في مضمار المسؤوليات والمهام، والعلاقة بين الدولة والمواطن.
بالأمس كنّا نصرخ خوفاً وهلعاً من أسطوانات الغاز، المحشوّة متفجّرات والمقذوفة نحونا من إحدى مناطق اختباء الإرهابيين.. وها نحن نسمع الصراخ ذاته اليوم، لكن ليس خوفاً، بل بحثاً عن الأسطوانة المنزليّة ذاتها، التي لا نهرب منها، بل ننشد الفوز بها، مهما كانت الوسيلة ومهما تواضعت.
ورغم أن أزمة نقص المادة اعترتنا بقوة في ذروة سنوات الحرب، وكان الموقف أكثر تعقيداً، لكننا فضّلنا حينها الأمان على الوفرة، وصمتنا، أي صبرنا، وكان صبرنا صموداً وانتصاراً.. إنه المتغيّر العميق بوقائعه ودلالاته، الذي اخترنا رصده عبر استحضار مثال الغاز، وربما هو الأخف لكنه الأبلغ، فنحن اليوم أمام تحول هائل فيما يمليه “العقل الباطن الجمعي” من سلوك، وانتقال من المزاج العام المهزوم أمام هواجس الحرب، إلى مسائل خدميّة وإن اتصلت بضرورات ويوميات المواطن، تبقى غير مصيرية لأنها قابلة للحلحلة، حتى ولو لم يؤمن بعضنا بجدوى جهد تنفيذي يُبذل لحلّها، فسيتكفّل الطقس بذلك على كل حال.. لكنه بالعموم تحوّل يدعو للاسترخاء بما أن فحواه قابلة للاختصار بجملة ” لقد انتصرنا”، وهي من أقصر الجمل وأبلغها لتوصيف حقيقة الموقف في تقييم نتائج صراعنا مع الإرهاب.
وليعذرنا كل من سيتسرّع بالالتقاط الخاطئ للمقاربة التي حاولنا استجماعها، رغم سهولتها، ففي حالات خواء البطون لا تعمل العقول بمهارات تفكير عالية، لكن ليحاول معنا الإجابة عن تساؤل هام، بل واستراتيجي حتى، وهو “لمَ كل هذا الصراخ” في زمن الانتصار.. هل هو صراخ التعافي الذي يشبه صراخ من يصحو مِن إغماءة حادث أو صدمة أليمة افترض أنها قاتلة.. فيمسي الاحتفاء بالحياة هو الدافع وليس التوجّع؟؟.
في كل الأحوال هو صراخ علينا التسليم ببراءته، بما أن له ما يسوّغه.. لكن أي براءة يمكن تلمّسها، فيما يجري من استعراض وافتعال الضجيج عبر “مكبرات عملاقة” لتضخيم الصوت والصدى.. بات “المشاهير فيها” أدوات لإذاعة النعوات؟؟.
لقد تحوّلت الحالة إلى فوضى، أنتجت بتردداتها- أو كادت- ما يتماهى مع غاية “موزّعي مكبرات الصوت وحامليها” من هلع ورضوض نفسيّة ومعنويّة تستهدف مباشرة ثقة المواطن المنتصر بدولته المنتصرة به.. وهو مشروع لا يقل خطورة عن استهدافنا بالإرهاب، فالحصار جلّ غايته سماع هذا الضجيج، كمادة خام يجري الاشتغال عليها بمهارة عالية، وتسويقها على جناح التكنولوجيا التي باتت هي الإعلام، وليس مجرّد الحامل التقني له، وكلّما صرخنا أكثر ستكون الجرعة القادمة أكبر.. إنها التحضيرات التي تتسارع، تحالفاً مع البرد والشتاء، لمقايضة النصر السوري بأسطوانة غاز أو صفيحة مازوت .. فهل نقايض كما قايض سوانا؟؟.
ناظم عيد