ثقافةصحيفة البعث

انتظار بالألوان

 

يا لهذه اللعبة المريرة التي اسمها انتظار، لعبة نبقى نتمرن عليها طوال حيواتنا، حتى ونحن تحت التراب، ولا نتقنها.
إنه انتظار لا ينتهي وكأنه موسوم بسمة الأبد أو الديمومة، أليست العلاقة مع الإله في كل الأديان محكومة بالانتظار؟ لا يوجد انتظار ممتع -هكذا بدأ يفكر بينما كلمات غائمة لأغنية تصله من بعيد، لمغنية قتلها الانتظار-كل “الانتظارات” مريعة وراوغ محمود درويش كالعادة في قصيدته “انتظرها” تلك التي يقولها لمنتظر من “هونولولو” ربما، سأل نفسه: ماذا يقصد درويش بهذه العبارات مثلا في مطلع القصيدة “بكأس الشراب المرصَّع باللازوردِ انتظرها، على بركة الماء حول المساء وزَهْر الكُولُونيا”؟ عن أي عاشق يتحدث هذا الرجل؟ وعن أي انتظار يحكي؟ وهل هذا شعر أم ما هو؟
نظر إلى ساعته وكانت تشير إلى الخامسة و52 دقيقة بعد الظهر بتوقيت دمشق –المدينة المنتظرة-وكان قد وصل كعادته قبل الموعد بنصف ساعة لينتظرها، هذه الخواطر هي ما راحت تلعب بباله كنسمات شباط الباردة عند الغروب بينما هو ينتظر، أليس الغروب أيضا انتظار؟ إلا أن آلة الغروب، مختلفة عن آلة الإنسان في الانتظار، فهو محكوم بالعادة اليومية التي لم يخلف موعده معها مذ بدأ الليل والنهار يتسابقان ولا لأحدهما أن يدرك الآخر، أما هذا المسكين الذي هو نحن “أنا –أنت- هي- هم- جميعنا”، فانتظارنا من نوع آخر، انتظارنا يشبه سباقات جري التتابع التي لا نهاية لها،كل يحمل انتظاره ويركض به في المضمار، لكنه هو من يسلمنا لانتظار آخر عوض الراية التي يتبادلها المتسابقون عادة وهكذا، من انتظار الذهاب إلى المدرسة إلى انتظار العودة منها ومن انتظار الذهاب إلى العمل إلى انتظار العودة منه، من انتظار الحياة إلى انتظار الموت، من انتظار الحب إلى انتظاره مرة أخرى، من ومن ومن، إنه انتظار لا ينتهي.
قال لنفسه وهو يحاول أن يكش تلك الأفكار التي راحت تأكل رأسه، بينما هو في انتظارها على آخر مقعد في الحديقة؟ حيث قام هذه المرة بتغيير المقعد الخاص بهما رغم أنه في حديقة عامة، وعندما كانا يأتيان ويريا أحدا ما غيرهما جالسا عليه كانا ينتظران – هذا انتظار طارئ أيضا-حتى ينهض الناس عن مقعدهما، ليجلسا، لكنه اليوم لم يدر بداية لماذا قام بانتقاء أكثر المقاعد تطرفا في الحديقة، وها هو ينتظر.
كيف يحتمل الناس الانتظار؟ من أين يأتون بالجلد عليه؟ هل هم مجبرون في هذا أيضا؟ أم أنهم اعتادوا الموضوع وانتهى الأمر، انتظار الباص، انتظار الخبز، انتظار الراتب، انتظار في الدور على الصراف الآلي الخالي من الرحمة، انتظار هذه الحرب التي لا تريد أن تنتهي، انتظار الأبناء، انتظار الموتى، انتظار المطر انتظار ينهضون إليه كل يوم وكأنه واجبهم وجدا.
مرة أخرى راح يفكر لماذا من بين كل تلك المقاعد الفارغة في الحديقة ومن بينها مقعدهما، اختار هذا المقعد المتطرف والبعيد، لكن مشهدا سينمائيا يحدث في أفلام نادرة -كما فيلم مالينا مثلا- انتصب أمامه كشاشة عرض مرتفعة وضخمة، أجابه عن سؤاله، حيت راحت خطواتها تقترب من آخر الممر المفضي إلى المقعد، كانت تمشي والهواء يحمل لطافتها، روحها ترفرف فوقها كفراشة، وعلى دعساتها كان الحبق يتطاول، لينال حصته من عبيرها، نظرت مرتين أو ثلاث بارتباك إليه وهو يحدق فيها، متمنيا لو أنه يستطيع انتظارها على ريق قلبه، طوال العمر، طالما أن المشهد السينمائي الذي صنعته بعذوبة ودون أن تدري، هو من سيحملها إليه، ليس من أطراف الحديقة فقط، بل من أطراف الأحاديث والبحور والدنيا، الدنيا كلها، التي لا ريب كانت تدربه لهذا الانتظار الندي الذي لم يجف.. إنه الانتظار، إله آخر نحبه، وننكره قبل صياح الديك.
تمّام علي بركات