مجرد تظاهرة أخرى عبثية
أخيراً، يجد ترامب نفسه مرغماً على السير في الطريق المعاكسة، فالرئيس الذي كان يعشق التحلّل من الالتزامات والمعاهدات الدولية، ويستشيط غضباً من أي اتفاق، بات اليوم أمام تحدي إنعاش شعبيته المتهالكة في مواجهة كونغرس متبرّم من حجم انقلاباته على السياسات الأمريكية التقليدية، وطبقة سياسية متنمّرة على غرابة أطواره في إدارة دفّة الحكم ونزعته الشخصية في اتخاذ القرارات. لقد أدرك خلال وقت قصير نسبياً معنى التنازل، وضرورته في عالم متداخل، ومتشعب المصالح إلى الحد الذي بات من الصعب الاختيار بين الأصدقاء والأعداء، وبعد عامين من دبلوماسية فاشلة استهلكت حتى الآن ثلاثة وزراء للخارجية، دون أن تحصد سوى التخبّط وعدم الفهم والارتباك.
يخترع ترامب مؤتمراً “دولياً” تستضيفه دولة أوروبية طرفية – هي بولندا – قد تخرج متضرّرة وسط إحجام الدول الأوروبية الكبرى – تمثّلت في خفض مستوى التمثيل – من غالبية دول الاتحاد؛ يضطر لتعديل جدول الأعمال، مرّة واثنتين وثلاثاً، على أمل إيجاد مبرّر كاف للاجتماع؛ يتنقّل بين السعي لتشكيل تحالف ناتو إقليمي “في مواجهة” إيران، وبين العمل على محاولة إحياء “صفقة القرن”، الميتة سريرياً، من خلال عرض كوشنير للملامح العامة لخطته للسلام، وبين دفع الأمور باتجاه إعادة حليفه في السعودية إلى المجتمع الدولي بعد قصة القنصلية في اسطنبول، وبين النظر بشكل أوسع إلى مشاكل الشرق الأوسط، وإعادة لملمة شتات حلفاء تقطّعت بهم السبل بعد أربعة وشهرين شهراً من همايونيات رئيس أمريكي لا يمكن ضبطه أو توقّع مواقفه!. الرابح الأكبر، وربما الأوحد، قد يكون رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي وضع نصب عينيه أن الذهاب إلى وارسو، والتقاط الصور التذكارية مع المهرولين العرب، سيجعله على مقربة من الفوز بالانتحابات. ورغم أن هذه الحقيقة، بحد ذاتها، تشي بحجم الفشل المتوقّع، وتجعل مؤشرات النجاح تبدو باهتة على أكثر من مستوى. إلا أن النتائج النهائية، وإلى حد بعيد، قد تدشن البداية الفعلية لتفجير الخلافات، إذ إن من الواضح أن مختلف الأطراف المشاركة باتت تنتزع من رصيدها الاستراتيجي، السياسي والدبلوماسي والتاريخي والمعنوي، وأنها تدخل عملياً منطقة المراهنات الخطرة والقاتلة، فبعد المصافحة مع نتنياهو لن يكون هناك ما يمكن التبرّع به، وبعد التطبيع مع “إسرائيل” لن يكون هناك ما يمكن التنازل عنه. وعلى العكس، فعند هذه النقطة سيصل الجميع إلى ساعة الحقيقة ونهاية المطاف، فلا الولايات المتحدة الأمريكية و”إسرائيل” تستطيعان قلب معادلة القوة الراهنة في الشرق الأوسط، ووقف صعود محور المقاومة، ولا دول “الاعتدال العربي” قادرة على الاتيان بأكثر من هذه الشكليات. إن اعتراف مشيخات وممالك الخليج بـ”إسرائيل” لن يلغي حقيقة أن الكلمة الفصل في الصراع العربي الإسرائيلي هي لأصحاب القضية – الأرض – الأصليين في بلاد الشام، وأن هذه الحقيقة منتهية لا تقبل أدنى مراجعة، وأن كل ما سوف “ينجز” لن يشكّل إلا نوعاً من خطوة مجانية، وتبرع أخرق، ومن طرف واحد، من شأنه تسريع احتمالات المواجهة في شبه الجزيرة العربية بين منطق الاستسلام والتفريط والتبعية وبين منطق السيادة والكرامة الوطنية.
لن يكون مؤتمر وارسو سوى مجرد تظاهرة أخرى عبثية تنفضّ بعد انتهائها، ولم يبالغ وزير الخارجية الإيرانية عندما قال بأنه “ولد ميتاً”. إن كل ما يمكن أن يقدّمه مؤتمر على هذه الشاكلة أعد على عجل لخدمة حملة ترامب للعلاقات العامة، بالدرجة الأولى، هو إظهار التوافق في وجهات النظر – بمباركة أميركية – بين أنظمة عربية عميلة وبائسة أدمنت الاستقواء بالأجنبي، وبين “إسرائيل” المذعورة التي تتحسس اتساع المخاطر والتحديات وتستمرئ لعبة الهرب إلى الأمام وسط شرق أوسط “جديد” مقاوم، لن ترهبه الضغوط الاقتصادية والتفجيرات الإرهابية.
بسام هاشم