الفنُّ والإنسان في تجربة سموقان أسعد
الكثير من الفلاسفة يرون أن كل عمل إبداعي يَكمنُ وراءه نوعاً من الجنون أو نوعاً من الإدمان يؤدي بصاحبه إلى إتقان العملية الفنية التي يقوم بها سواء أكانت رسماً أو نحتاً أو أي عملٍ فني يتمثل بشروطه الإبداعية، ولكن هل كل ما يراه الفلاسفة من وجهة نظرهم علينا أن نقتنعَ به؟.
العمل الإبداعي فيضٌ روحي وإنساني يساهم في تكوين عملية الخلق الفني.! والجنون ليس سمة من سمات الإبداع على اعتبار جميع من اتهموا بأنهم عباقرة بسبب جنونهم، وهذا الجنون ما هو إلا هذا الفيض الإنساني الذي سمّا بالعمل الإبداعي.
الحروب المتعاقبة على البشرية وتـأثيراتها الصعبة المعقدة من الناحية النفسية والمادية والأخلاقية، والآثار التي تتركها خلفها في البشر وفي علاقاتهم مع الغير، وحتى مدى تأثيرها الانفعالي والفعّال في النفس البشرية، يكون فيها الإنسان الضحية الأولى التي لا يمكن أن تُستعاد.فالإنسان يجسّد الجمال على الأرض، يبدعهُ ويصورهُ بكل القيم الأخلاقية، إذ لا يمكن الإشارة إلى عملٍ فني إذا تجاوز حدود الأخلاق.!
العملية الإبداعية لا تُرتجى ولا تُطلب، وإنما تُخلق مع الإنسان، ومهما حاولنا صناعة فنان أو شاعر أو كاتب، من الصعب جدا إتقان هذه الصناعة، لأن للفن خصائص إلهية متميزة تتجلى في بهاء العمل الفني وتميزه.!
في سورية حضرتُ الكثير من المعارض الفنية التشكيلية وتعرفت إلى أهم الأسماء فيها، وكنا نرى فيها نوعاً من التنافس الخلّاق وهذا طبيعي في جميع مجالات الإبداع.
دخلت البلاد في حرب وحشية لم يشهدها العالم قط، هجمة شرسة حاصرت البلاد وحاولت إبادة تاريخها الثقافي والفني، حيث بدأت بتهديم أهم آثار وحضارات سورية تاريخاً وهوية، بالإضافة إلى محاولة تشويه صورة الإنسان المبدع، لكن سورية طائر الفينيق الذي ينهض دائما وأبداً من الرماد ويحيّا من جديد، وتمثلت حقيقتها ونهضتها من جديد.
الحرب أثرت على الإنسان والإبداع والإنتاج والعلاقات الإنسانية، ولكن كان هناك نوع من المقاومة الروحية التي تمثلتْ بصمود المبدعين بكل أطيافهم فيها، والكثير منهم رفض الهجرة والمغادرة، وهذا بدوره ساهم في إعمار البلاد بشكل ما وساهم في وضع حجر أساس لقيامها ونهوضها من جديد.
رغم الحرب والظروف التي حدثت، شهدت دور النشر حركة لا مثيل لها في النشر، إذ لم يتوقف النشر رغم سنوات الحرب والقصف على دمشق، كانت المعارض في مكتبة الأسد وفي دار الأوبرا تقام بشكل دوري ومستمر رغم الضربات الهمجية التي وجهت لها، وتقام المعارض الفنية الكثيرة والمتنوعة على مستوى المدن السورية كافة، كان الفنان السوري يتجول في معارض سورية حاملاً لوحاته سلاحاً في وجه الحرب.
الفن التشكيلي السوري لم يـأتِ من فراغ، هو فن يقوم على حضارة وتاريخ وفكر تأسس عبر حضارات متعاقبة وأجيال، فن رسخه الإنسان السوري بعبقرية نادرة تعتمد على الثقافة والأخلاق، وهي أهم شروط العمل الفني مهما كان نوعه.
خلال سنوات الحرب زرتُ سورية لأكثر من مرة، التقيت بشعراء وشاعرات وفنانين لم أسمع بهم من قبل، فالدهشة تحاصر الإنسان عندما يرى هذا الكم الهائل من الإبداع يتجسد لدى أهم الأسماء والأصوات الفنية في سورية وهو “سموقان أسعد” الذي قُدر لي أن أزور مرسمه في اللاذقية، حيث كانت الصواريخ تقطع سماءها ومعرضه يكتظ بالمعجين والزوار وأنا كنت واحدة منهم، تعرفت إليه فناناً مبدعاً عبر الفيس بوك ولكن الزيارة واللقاء الحقيقي تجسّد حقيقة في مرسمه الرائع الذي يضج بالحركة والحياة لفنانين من مختلف أنحاء سورية، ومن أجمل اللوحات المعروضة كانت لفنان سوري شاب مبدع هو “وديع عطفه” الذي تفأجات بأنه في المرحلة الثانوية من دراسته، ولكنه فنان موهوب وذكي يثبت حضوره بشكل لافت للنظر بين أسماءٍ لها عمرٌ في الحركة الفنية السورية، وهذه اللفتة المتميزة بالمعرض تؤكد على أخلاقية الفنان سموقان ورقيه في دعم المواهب المبدعة.!
في مرسم الفنان التشكيلي سموقان، كانت لوحاته تتدلى كالثريات إشراقاً وبهجة، ربما الشاعر يرى في اللوحة ما يراه الفنان ذاته أو الناقد أو يخالفهما، فكل عين بصيرة بقدرة خاصة بها. كلُّ عملٍ فني يقوم به الفنان يصبح خارجَ يده ويصبح ملكاً للمتلقي في فهم الموضوع ودلالاته.
اللوحة عند سموقان أسعد لا تتجسد فقط في إطار ورؤية معينة وهو لا يسمي لوحاته، والمتلقي هو مرآة لانعكاس اللوحة وتأثيراتها الفنية، لوحاته الجدارية لا يمكن أن تجدّ فيها ضربةً فارغة لريشة أو مساحة بيضاء، ففي لوحاته بمساحتها المفتوحة نرى طوفان نوح، نرى هابيل وقابيل، أعمال تتميز بالدقة والانشغال بكل حركة من حركاته اللونية بالإضافة إلى تنوع مواضيعه التي تتجسد بتمّثل الإنسان والحيوان والنبات، معتمداً على الأساطير، لكن ليس بتقليدها، إنما برؤية جديدة يسعى فيها إلى انعتاق الروح وخلاصها من بوتقة الجسد ونزوع الإنسان إلى الخلاص من عالم الحرب الشنيع.!
الإبداع عند كل فنان يتجلى ويظهر في تنوع مواضيعه والمواد التي يشتغل عليها، وعلى الرغم من ارتفاع أسعار المواد الأولية من ألوان وخام وخشب، كل هذا لم يثن الفنان عن صقل أعماله ببهجة لونية تعكس مدى كرمه الروحي والفني في التعامل مع الألوان، وحركتها وانسيابها في جسد اللوحة، حتى لتشعر بأنك تحاكي مخلوقاً فنياً بديعاً.
الفنان سموقان في مشروعه الفني الجديد مشروع “ألف لوحة”، نرى فيه غنىً وإبداعاً وجمالاً وأفكاراً جديدة تأخذنا إلى عوالم سحرية مدهشة، حيث الأصالة تتجلى بشبابيك تعرّش عليها وروداً، حتى ليظن الناظر إليها إّنها حديقةٌ عربية أندلسيةٌ أو يذهب إلى أعماق التاريخ، ليرى الإنسان في إبداعه الأول حيث كل لوحة تمثل جدارية كاملة مشغولة بحس فني عالٍ، لا فراغ فيها، حياة تنبض وتشعر بأنك تحيا في حياة مزدحمة أو تتجلى لك صورة جلجامش في بحثه عن الخلود، كما يبحث الفنان عن خلوده في الفن.
من الصعب تفكيك أعمال سموقان لأنها نتاج ثقافة وكرم فني وعلاقة حميمة تبين بوضوح بصمته الإبداعية، إذ لا تقليد، وأينما حلت له لوحة من باريس اللوفر إلى جبلة ودمشق واللاذقية أو إلى أي مدينة يقال بوضوح أنها لوحات الفنان سموقان أسعد دون أي شك في تأويلها لاسم فنان آخر، وهذا ما أكده ويؤكده الكثير من المتابعين لحركة الفن في سورية، وأيضا ممن يحضرون معارضه التي يقوم بها.
فرات إسبر