دراساتصحيفة البعث

التلاعــــــب بالأنبــــــاء ومحاولــــــة التحكــــــم بالعقــــــول

 

د. مازن المغربي

تصر واشنطن على لعب دور الراعي الذي يرى أن كل شعوب العالم لا تعدو أن تكون قطعاناً يحق له التحكم بها، وأي شخص مطلع على عمل الراعي يعرف أنه هو بالذات من يقضي على أفراد القطيع الذي يفترض به حمايته من الذئاب، صار الأنترنت جزءاً من حياتنا، ومصدر معلومات نظن أنه موثوق، برامج مايكروسوفت ملغمة مسبقاً، فالشركة وثيقة الصلة بوكالة الأمن القومي في الولايات المتحدة، وثمة برامج مذهلة تتيح للمشرفين على تدفق المعلومات في الشبكة إمكانية معرفة كل ما يدور في أذهان مستخدمي الشبكة، هناك برامج توفر لك إمكانية كتابة مقالات باللغة الانكليزية دون أخطاء إملائية أو نحوية، كل المطلوب منك هو منح ثقتك لهذه البرامج، وهناك رقابة محكمة على الأنترنت بفضل خوارزميات متطورة توجه المتلقي إلى المواقع الموثوقة بالنسبة للمشرفين على الأنترنت، صار قطاع المعلومات من أبرز قطاعات الاستثمار الاقتصادي، وتجاوزت أرباح محركات البحث ميزانيات العديد من الدول، والقاعدة تقول إن من يملك المال قادر على تحديد قواعد اللعبة، صحيح أن الفقراء وأصحاب الأفكار التقدمية قادرون على استخدام الشبكة، لكن المحصلة النهائية تصب في مصلحة اللاعبين الكبار.

والآن صار هناك تطبيق جديد يسمى (نيوز غارد)، أي حارس الأنباء، ويفتخر القائمون على إدارته بأنه يستخدم مجموعة من المحللين والصحافيين المجربين المدربين على البحث في الشبكة بهدف مساعدة القراء لمعرفة ما هي الصحافة المشروعة، وما هي تلك غير المشروعة، ولكن من الذي درب هؤلاء الصحافيين؟ ومن انتقاهم؟ وما هي المعايير التي اعتمدت في اختيارهم؟ هل هم أفراد جمعية خيرية حريصة على وصول الخبر الصحيح للمتلقي، أم هم في خدمة من يدفع رواتبهم؟.. أظن لا حاجة لمقدار عال من الذكاء للإجابة عن هذا التساؤل، ونقرأ في الموقع الترويجي لهذا التطبيق  أنه مجاني، وما إن يتم تنزيله حتى تظهر أيقونة التفعيل، وهو يستخدم الضوء الأحمر للتنبيه من محتوى الصفحة موضع الشبهة، والأخضر للإشارة إلى أنها صفحة موثوقة لا تروّج أنباء كاذبة بهدف خدمة غرض ما، ولا يقتصر هذا على الأخبار السياسية، بل يشمل الإعلانات التجارية، وهذا نشاط اقتصادي يتجاوز حجمه مليارات الدولارات سنوياً، كما يوفر هذا التطبيق معلومات تفصيلية عن أكثر من ألفي موقع تغطي 96% مما ينشر في الولايات المتحدة باللغة الانكليزية، وهذا يوضح أن الشريحة المستهدفة بالأساس هي مواطنو الولايات المتحدة.

ويضيف الموقع الترويجي  بأن  هناك فريقاً من المحللين يعمل أربعاً وعشرين ساعة، بسبعة أيام في الأسبوع، لتحديد أية أخبار غير موثوقة في مواقع لم يدرجها التطبيق في تصنيفه لينبه المستخدمين على الفور، ويخطط القائمون على هذا المشروع للتوسع خارج حدود الولايات المتحدة، بحيث يصلون إلى مليارات البشر ممن يتابعون الأخبار على الشبكة، والهدف النبيل هو توفير المعلومات حول مصادر الأخبار التي يمكن الوثوق بها، وطبعاً لا تقدم الصفحة الترويجية أية معلومات حول فريق العمل، ولا حول منهج التحليل المعتمد، ويقتصر هذا التطبيق حالياً على محركات البحث، ولكن من المخطط تطويره بحث يلائم الهواتف الجوالة ما إن يتم إنجاز قاعدة البيانات التي يتطلبها هذا التوسع، والطريف أن كل ما ذكرناه مدرج تحت عنوان إعادة الثقة، إذاً لم يعد هناك حاجة للاعتماد على التحليل الشخصي، وعلى المنطق السليم طالما توفرت مجموعة من فاعلي الخير الذين يخشون على المتلقي  ويحمونه، وإذا مضينا أبعد في التقصي تتوضح الصورة تدريجياً، فالتطبيق يعتمد على عمل فريق من الصحافيين والناشرين الذين يقيّمون صحة ما ينشر من معلومات وأنباء على المواقع الالكترونية بالاعتماد على مجموعة من المعايير مثل إن كان الموقع معتاداً على ترويج أنباء كاذبة، وتحديد تعارض المصالح، وكشف مصادر التمويل، ولا يعتمد التطبيق على الخوارزميات، بل على الجهد البشري  بهدف ضمان الشفافية، وترك المجال مفتوحاً أمام المحاسبة، وعلى هذا يوفر التطبيق إمكانية معرفة الصحافي الذي أجرى تقويم موقع ما، ويقدم سيرته المهنية.

لم يعد هناك من شك في أن الطغمة المالية المتحكمة باقتصاد العالم دخلت في سباق مع الوقت، لقد نجحت الرأسمالية في إنجاز مهمتها التاريخية، وحولت الكوكب بأسره إلى سوق موحد يخضع لقانون هيمنة الأقوى، صار اقتصاد السوق هو السائد، فبعد تفكيك الاتحاد السوفييتي، وتحول الصين وفيتنام إلى نظام الإنتاج الرأسمالي، لم يعد هناك أي جزء من كوكبنا بمنأى عن عملية تقاسم الموارد، والتنافس بين القوى الرأسمالية على أشده،  وتسعى واشنطن لتأخير عملية صعود الصين لتصبح الاقتصاد الأول في العالم، ويبدو أن هناك خططاً جدية لمحاولة منع هذا حتى عن طريق الحرب، وإذا ألقينا نظرة على مختلف أرجاء العالم الرأسمالي المتقدم نجد أن التوترات الاجتماعية عادت بقوة بعد فترة تراجع استمرت عشرات السنين، وبرزت من جديد شعارات المطالبة بالعدالة الاجتماعية، وإعادة توزيع الثروات القومية، وكانت حركة الاحتجاجات التي شهدتها فرنسا بمثابة ناقوس الخطر، ولم يعد بإمكان الأنظمة القائمة امتصاص النقمة الشعبية عن طريق إجراءات تجميلية بعد أن بلغ التفاوت الاجتماعي حدوداً غير مسبوقة، وتركزت معظم الثروات في يد 1% من كبار الأثرياء الذين يتحكمون بوسائل الإعلام، وبمناهج التعليم، ويعملون على فرض نمط تفكير أحادي يتحول فيه الأفراد إلى حلقات في سلسلة ضخمة تغطي العالم، لقد تم بذل جهود هائلة لإلغاء تفرد الفرد وقولبته وفق ما يناسب الطغمة الحاكمة التي ترى أنها فوق المحاسبة والمساءلة، حيث إنها هي من يحدد قواعد اللعبة، وهي وحدها القادرة على تغييرها.

تحولت الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى مؤسسة عاجزة ينتشر الفساد في مختلف الهيئات التابعة لها، وتتحكم بها مجموعات من أصحاب المصالح المشتركة، لم يعد هناك احترام للقانون الدولي القائم على مبدأ سيادة الدول، ولم تعد هناك مرجعية دولية يمكن الاعتماد عليها لضبط التصرفات العدوانية، وما أحداث فنزويلا إلا دليل قاطع على أن الدفاع عن الديمقراطية وعن حرية الشعوب لا يعدو أن يكون شعاراً أجوف، ضمن هذا السياق يمكن فهم إصرار فئة المترفين الممسكة بالسلطة في الولايات المتحدة على التحكم بتدفق الأنباء. فعلى مدى عقود متتالية من السنين بذلت الإدارات المتعاقبة في الولايات المتحدة جهوداً جبارة لتفكيك الطبقة العاملة في البلاد، وعلى هذا الأساس تم نقل الصناعات التي تحتاج إلى تمركز عدد كبير من اليد العاملة في حيز جغرافي محدد إلى خارج البلاد، ونجحت السلطات في تحويل النقابات العمالية إلى ذراع ضارب يشل حركة العمال، ويحد من إمكانية توحدهم في مسار غير الذي تحدده الطغمة المالية، لكن شبكة الأنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي وفرت للناس إمكانية التعبير عن التضامن دون حاجة لتواصل فيزيائي، ويبدو أن الحكومة العميقة في واشنطن تدرك أن المأزق الاجتماعي في البلاد  شارف على مرحلة الانفجار، حيث تشير أرقام حكومة الولايات المتحدة إلى تصاعد أعداد الفقراء بشكل مستمر، فالحكومة في واشنطن وضعت تعريفاً للفقر بأنه الافتقار إلى قدر مقبول من المال بالمعيار الاجتماعي،  وعادة ما يتم الاعتماد على حساب “عتبة الفقر” التي حددتها الحكومة بأنها العجز عن الحصول على الخيرات، وعلى الخدمات التي يفترض أنها مضمونة لكل أفراد المجتمع، ويتم عادة تعديل عتبة الفقر من خلال حساب معدل التضخم، ومن خلال مؤشر أسعار الاستهلاك.

وتشير الدراسات إلى أن معظم سكان الولايات المتحدة في الفئة العمرية ما بين 25-75 عاماً عاشوا حالة فقر خلال عام من حياتهم على الأقل، وتتراوح تقديرات عدد المواطنين الذين يعيشون تحت خط الفقر ما بين 43-100 مليون شخص، أي قرابة ثلث السكان، كما أن عدد العاطلين عن العمل تجاوز عتبة ستة ملايين شخص، ويضاف إلى هذا واقع عدم اندماج مكونات المجتمع، حيث يمثّل البيض من الأنغلوساكسون البروتستانت نخبة تتحكم في معظم مفاصل المجتمع، في حين يعاني ذوو الأصول الأفريقية والمهاجرون من دول القارة الأمريكية الوسطى من تمييز واضح، إذاً تتوفر في الولايات المتحدة كل عوامل الانفجار الاجتماعي، لذا نرى الإدارة في واشنطن تبذل جهوداً جبارة لمنع تشكّل وعي عام مشترك،  وتسعى إلى تصدير المشاكل، وحرف انتباه الناس إلى صراعات مع أعداء حقيقيين أو مفترضين، مستعملة كل وسائل التضليل الإعلامي الأكثر نجاعة، بما في ذلك فرض الرقابة على الأنترنت، ومراقبة كل الاتصالات، واختراق البيانات الخاصة، والتجسس على كل فرد عبر الهواتف الجوالة، وعبر الحواسب المحمولة، ومن خلال  مئات آلاف كاميرات المراقبة  المنتشرة في كل مكان، وكل هذا يهدف إلى محاولة منع المسار المحتوم لانتهاء عصر الهيمنة المطلقة حتى لو قاد هذا إلى مواجهة نووية مدمرة، حيث تتحكم في النخبة الحاكمة أفكار أصولية حول ضرورة تدمير العالم في مواجهة شاملة في إطار معركة “هرمجدون” تمهيداً لبعث المخلص الذي سيقود العالم إلى السلام والعدل.

ومن المؤشرات المثيرة للقلق إصرار الإدارة في واشنطن على إطلاق سباق تسلح جديد يترافق بتوجه لتعزيز القواعد العسكرية داخل وخارج حدود البلاد، حيث بلغ عدد المواقع العسكرية وفق مصادر وزارة الخارجية 4775 موزعة على خمسين ولاية، وعلى ثماني أراض تابعة للولايات المتحدة، بالإضافة إلى 514 قاعدة عسكرية منتشرة في 45 بلداً أجنبياً، كل هذا يجعل من المفهوم محاولة التحكم بالأخبار التي تصل إلى المواطنين الغارقين في مشاكل الحياة اليومية، ويجهدون للبقاء، والراضين حتى الآن بالعيش في ظل حماية الراعي.