ثقافةصحيفة البعث

“الزوجة”.. لَسْتُ “ضَحيّة” لكنّي اخْتَرتُ التّضحِية

بالرغم من موهبتها الواضحة والتي شهد عليها أساتذتها خلال سنواتها الجامعية إلا أنه لم تكن لدى “جوان” الشجاعة الكافية لنشر أعمالها وكتاباتها، ذلك أنها لو قدّر لها وقامت بالأمر فإن مصير تلك الكتب سوف لن يتجاوز رفوف المكتبات على أفضل تقدير، ولن يقدم أحد على اقتنائها أو قراءتها، وهو ما أكدته لها “إلين موزيل” الكاتبة المتمرسة والتي اختبرت المجتمع من حولها، في إشارة منها إلى تلك النظرة الدونية لإبداعات المرأة في تلك الحقبة الزمنية، تقول لها وقد رأت فيها العنفوان والاندفاع: “مهما فعلت فأنت لن تنالي الدعم والاعتراف الكامل بموهبتك”.

رواية وفيلم

فيلم الزوجة المأخوذ عن رواية للكاتبة “ميغ وولتيزر” تحمل العنوان نفسه وتشير فيها إلى معاناة المرأة في بلادها وكفاحها المستمر للمساواة مع الرجل في مجال الإبداع الأدبي، تدور أحداثه في تسعينيات القرن الماضي، حيث مشهد البداية في منزل مطلّ على بحيرة جميلة، هو مكان إقامة الزوجين “جوان أدت الدور الممثلة غلين كلوز” والكاتب المشهور جوزف كاستلمان وأدى الشخصية الممثل جوناثان برايس” يوقظهما اتصال هاتفي وخبر بحصول الزوج على جائزة نوبل للآداب: “قولي لي أن الأمر ليس مجرد مزاح أو كذبة كبيرة يقول جو للزوجة غير مصدق للخبر برغم التوقعات الكبيرة المسبقة بالفوز: “عليك أن تصدق الأمر فهو حقيقي” ولن يتسع المكان للفرح يقفزان على السرير بينما جو يصرخ كالأطفال: “لقد فزت بجائزة نوبل لقد فزت بالجائزة”.

قشرة رقيقة

هي الصورة الأولية للعلاقة بين الاثنين اللذين يبدوان على أفضل ما يمكن لزوجين مضيا في الحياة المشتركة طويلاً، فترة تجاوزت الأربعين عاماً سوية، علاقة محبة وسعادة وتفانٍ متبادل بينهما، ومع توالي المشاهد تبدأ الحقيقة بالتسلل، تطل برأسها ليكتشف المشاهد بالتدريج أن الأمر لا يعدو كونه مجرد قشرة رقيقة مزيفة تغلف علاقة يشوبها الكثير من التوتر والبؤس ومشاعر المرارة المخفية، وهو ليس بالحدث الطارئ على الاثنين، بل لعله بدأ قبل أربعة عقود من الزمن تنطوي على الكثير من الأسرار التي عمل الطرفان على ألا تظهر إلى العلن لكنها كانت في الحقيقة تقض مضجع الاثنين على السواء.

تبدأ خيوط الحكاية بالتكشف بينما الزوجان في طريقهما إلى ستوكهولم العاصمة السويدية لاستلام الجائزة، حيث تبدي جوان كل تفان واهتمام بكل تفصيل يتعلق بالزوج، لا تتأخر في تقديم كل الدعم له والحرص على أدق التفاصيل لتأمين الأجواء الملائمة للكاتب الكبير، أمر لم تكن لتمانع فيه إلا أن مشاعرها بدأت بالتغير إثر النقلة الكبيرة وعوالم الشهرة الجديدة التي انفتحت أمام الزوج كأهم شخصية أدبية في البلاد، ستحاول لفت انتباهه بأسلوب موارب إلى ما تشعر به من تهميش فتقول له: “ليس أخطر من كاتب أصيبت مشاعره” وقد شهدت رده المتعجرف على طلب “ناثيال بون” بأن ينال شرف كتابة سيرة حياة الكاتب الكبير.

سنعود بالأحداث إلى الخلف قليلاً حيث جوان الشابة المبدعة والموهبة الواعدة واحدة من طالبات البروفيسور “جو كاستلمان” الذي سوف تقع في شباكه رغم أن لديه زوجة وأبناء، سوف تتخلى عن أحلامها وتدفنها لتكون زوجة وربة منزل وأم كالكثير من النساء من حولنا، لكنها وبالرغم من كل  تضحياتها إلا أن الزوج رغم تقدمه في العمر لم يتوان عن المحاولة المرة تلو الأخرى في معاكسة الفتيات من حوله، وهو أمر كانت تشهده بعينيها إلا أنها اعتادت أن تتغاضى عنها وتتحمل نزواته وتستمر في دعمها له طوال تلك السنوات في سبيل الوصول إلى الجائزة الحلم، مبررة الأمر أنه “مثل كل الفنانين هو يحتاج دائماً إلى الإطراء” إلا أنها وفي لحظة ما سوف تجد نفسها تثأر لنفسها ولو بالكلمة وقد انتقص من شأنها أمام الجميع وأثناء الاحتفال بالفوز حين ادعى أنها شخصية لا تمت إلى الكتابة بأي صلة، بينما يكشف الفيلم في حوادث متتابعة أنها تقف فعلياً خلف كل المؤلفات التي تحمل توقيعه.

وخلال الاحتفال الكبير الذي يقام عادة للاحتفاء بالفائزين وتحضره العديد من الشخصيات الكبرى وحين يوجه الملك السويدي سؤاله إلى جوان: “ما الذي تفعلينه في الحياة لكسب لقمة العيش” لا تجد سوى أن تجيبه بسخرية مشيرة إلى الزوج: “أنا صانعة الملوك” في دلالة إلى دورها في المكانة التي وصل إليها.

لكنها وبالرغم من الجرح الكبير الذي سببه لها هذا التجاهل والتقليل من شأنها فهي لن تقبل الظهور بمظهر الضحية إنما اختارت التضحية لأنها تحب وتحرص على عائلتها، وهو ما كانت تنطوي عليه  محاولات “ناثيال بون” بالتسلل إلى حياة العائلة وكشف أسرارها عبر كتابة سيرة حياة الكاتب الذي أضحى أحد أهم الأقلام في عالم الأدب.

كوميديا مُرّة

فيلم الزوجة الذي ينتمي إلى فئة الكوميديا السوداء، يطفح بالمرارة ومشاعر البؤس، ويصور واقع الحياة القائمة على الخداع والزيف والغرور، بأداء رائع من المشاركين فيه، لم يخلُ من الكثير من المواقف الطريفة والتي تنتزع ابتسامة المشاهد بسهولة، وهو لن يترك المجال لك للانحياز إلى أي طرف من الأطراف أو أي شخصية من الشخصيات، فالأمر منوط بكل مشهد على حدة، مكرساً حقيقة أن لا أحد بريء بشكل مطلق وأن الشر والمراوغة لا تقتصر على شخصية دون الأخرى، والصراع ليس صراعاً تقليدياً بين الخير والشر، فلكل سيئاته ومحاسنه بل لعل الأمر في الواقع صراع الشخصية مع ذاتها مع نوازعها التي تبدو كبندول ساعة قديمة على الجدار تتأرجح يميناً ويساراً ما بين السلب والإيجاب على السواء.

بشرى الحكيم