متى تزول لعنة آل سعود عن اليمن؟
هيفاء علي
على الرغم من الاتفاق الذي تمّ التوصل إليه بين اللجان الشعبية وحكومة عبد ربه منصور هادي في استوكهولم منذ أسابيع، ودخوله حيّز التنفيذ في 13 كانون الأول 2018، إلا أن العملية السلمية مازالت تراوح مكانها وقد تستمر فترة الترقب مدة زمنية أخرى، خاصةً بعد حصول انتهاكات وخروقات في الاتفاق من قبل التحالف الذي تقوده السعودية.
العدوان السعودي على اليمن الذي دخل عامه الرابع، ليس الأول من نوعه، وإنما هو امتداد لتاريخ دموي طويل من الحروب التي شنّها بنو سعود على هذا البلد لإبقائه ضعيفاً والتحكم بسياساته وقراراته، ونهب ثرواته وخيراته.
عودة إلى جذور العداء التاريخي:
إن الحرب السعودية ضد اليمن ليست الأولى، رغم قسوتها وفداحة الدماء التي نزفت فيها من فقراء اليمن وشعبها الأصيل، ولن تكون الأخيرة. فالعداوة التي يكنّها النظام السعودي إزاء اليمن قديمة-متجددة، إما خوفاً من قدرة شعبها وقوته، أو طمعاً بثرواتها وأراضيها. والحرب الراهنة ما هي سوى امتداد لتاريخ طويل من الدم والنار بين مملكة آل سعود ودولة اليمن بجنوبها وشمالها، فقد كان هاجس الكراهية عاملاً ثابتاً في تاريخ العلاقات السعودية-اليمنية، وكان عبد العزيز بن سعود، مؤسّس المملكة، قال وهو على فراش الموت: “انتبهوا.. فمن هنا سيأتي هلاككم وزوال ملككم -في إشارة إلى اليمن على الخريطة-، فلا تطمئنوا لهم وحاربوهم باستمرار وبكل الوسائل وفي كل الأوقات سلماً وحرباً”، وأقسم بألا يدع اليمن يرتاح. وهاهم الورثة ينفذون الوصية بحذافيرها حتى يومنا هذا ويطلقون “عاصفة الحزم” الشرسة التي دمّرت البلاد وشردت شعبه وحصدت أرواح مئات الآلاف من أطفاله ورجاله وشيوخه ونسائه. ولأن عدد سكان اليمن يشكل نصف عدد سكان الجزيرة العربية، وتتنبّأ شركات النفط العالمية بمستقبل نفطي واعد، فإن نظام بني سعود لن يدع اليمن يعيش بأمان واستقلال، بل استغل الضعف الاقتصادي ليفرض عليها سياسته. ومن صفحات الدم والنار في تاريخ العلاقات السعودية اليمنية، ما أشار إليه صلاح نصر، مدير جهاز المخابرات العامة المصرية في مذكراته عن موقف فيصل الرافض لحلّ مشكلة اليمن سلمياً: “اقترح الرئيس جمال عبد الناصر في كانون الأول عام 1962 فكرة سحب القوات المصرية من اليمن بشرط أن تتوقف معونة السعودية والأردن إلى الملكيين، إلا أن الأمير فيصل، ولي العهد السعودي ورئيس الحكومة في عهد أخيه الملك سعود آنذاك، اغتنم الفرصة للانتقام من عبد الناصر، ولم يكتفِ برفض عرضه بل قام بإعلان رفض السعودية للكسوة الشريفة التي كانت ترسلها مصر سنوياً للكعبة الشريفة منذ أمد بعيد”. كما قام فيصل بوضع العراقيل أمام الحجاج المصريين بغية تأليبهم على عبد الناصر.
اتفاق على عجل
لقد تمّ التوصل إلى الاتفاق بين الأطراف المتحاربة على عجل تحت الضغط الدولي لسببين رئيسيين: الأزمة الإنسانية ذات الأبعاد الكارثية، حيث أصبح موضوع اليمن يتصدّر اهتمامات وسائل الإعلام العالمية يومياً بعد أن حركت صور الأطفال الجياع وكالات الأمم المتحدة المختلفة على أعلى مستوى. والسبب الثاني، اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في اسطنبول، وتراكم الأدلة التي تثبت ضلوع محمد بن سلمان مباشرةً في هذه الجريمة، ما دفع الإدارة الأمريكية إلى ممارسة ضغوط جدية على النظام السعودي لتقديم تنازلات في اليمن جراء موجة السخط العالمي الناجمة عن هذه القضية.
وبعد أعوام من تجنّب الموضوع اليمني بسبب النفوذ السعودي والإماراتي، قدمت المملكة المتحدة أخيراً مشروع قرار لمجلس الأمن في 19 تشرين الثاني 2018، وقد تمّ تأجيل المصادقة عليه بسبب معارضة أعضاء التحالف الذين كانوا يتحركون من خلال الكويت، بوصفها عضواً غير دائم في مجلس الأمن آنذاك. وكان ينصّ مشروع القرار على الضرورة العاجلة لمعالجة الأزمة الإنسانية، وبضخ دولي للأموال جراء غياب السيولة في البلاد.
وفي بداية كانون الأول 2018، تمّ عقد اجتماع برعاية الأمم المتحدة في السويد بين مبعوثي اللجان الشعبية وحكومة هادي، حيث استمرت المباحثات أسبوعاً كاملاً، مارس خلاله الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيرس ضغوطاً إضافية حتى وافق الطرفان على توقيع اتفاق ستوكهولم المكون من ثلاثة أجزاء هي: إعلان النوايا، والتزام بتشكيل لجنة خاصة لمناقشة الوضع في تعز، والثالث خاص بمحافظة الحديدة ووصول المواد الغذائية الأساسية للسكان عبر موانئ البحر الأحمر، إضافةً إلى تبادل الأسرى. وقد جرى الاتفاق على آليات تنفيذ الاتفاق، غير أن محادثات السويد لم تسمح بالاتفاق على مسألتين أخريين وهما: مطالب سكان شمال البلاد، ومناقشة الوثيقة التي قدمها المبعوث الخاص للأمم المتحدة بهدف الوصول إلى الحل السلمي.
بخصوص محافظة الحديدة، ينصّ الاتفاق، فضلاً عن وقف إطلاق النار ووعود بسحب القوات العسكرية للطرفين من الميناء وتحويل إدارة أنشطة الميناء إلى الأمم المتحدة، على دفع إيرادات الميناء إلى الفرع المحلي للبنك المركزي اليمني بغية دفع رواتب الموظفين. ويظهر من غموض الاتفاق ومن طابعه المقتضب أن الوقت لم يكن كافياً للإحاطة بكل المشكلات، وبالتالي يحمل الاتفاق عيوباً تترك مجالاً واسعاً لتأويلات مختلفة. وكما هو متوقع، حصلت انتهاكات عديدة للاتفاق تباينت من حيث خطورتها، ترافق ذلك مع تجديد طيران التحالف غاراته على مختلف المناطق.
حصيلة العدوان:
وفي الحديث عن المجاعة التي يعاني منها الشعب اليمني جراء الحصار والحرب، والأمراض المستشرية ونقص الأدوية وحليب الأطفال، لابد من التساؤل: إلى أين تذهب أموال المانحين ولمن يتمّ إيداعها، ولماذا لاتصل إلى مستحقيها؟ لقد أعطيت لعشرات الوكالات التابعة للأمم المتحدة، والمنظمات الدولية والمؤسسات غير الحكومية. ومن بين أكبر المنظمات التي تلقت هذه الأموال: برنامج الغذاء العالمي وصندوق الطفولة، ومنظمة الصحة العالمية، والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. ولكن لم توثق تلك المنظمات سوى إحصائيات العدوان السعودي، إذ تبيّن جميع التقارير أنه قتل في الحرب اليمنية ما يقرب من 100000 شخص، ووقع أكثر من 50 ألف جريح، ويقاتل الباقون في بلدٍ لا تعمل نصف مستشفياته، وأصبح أكثر من 3 ملايين شخص بلا مأوى- من بلدٍ تعداده 11.5 مليون نسمة، فيما يعاني 8 ملايين شخص من الجوع الشديد، ووصل عدد حالات الكوليرا إلى 200 ألف بمعدل خمسة آلاف حالة يومياً وهي أسوأ حالة تفشٍ للوباء في العالم، وأصبح من الصعب الحصول على المساعدات الإنسانية لمن يحتاجونها، بسبب افتقار منظمات المساعدة للنقود، والحصار الذي يفرضه نظام بني سعود على الموانئ في الجنوب.
الأطفال.. جيل جريح مدى الحياة
في أي بلد تضربه الحرب، يكون الأطفال هم الحلقة الأضعف والضحايا الأوائل جسدياً ونفسياً، إذ يعاني أطفال اليمن من الأمراض والجوع والافتقار إلى أبسط حقوقهم، إنهم يواجهون تحديات متعددة فورية وأخرى طويلة الأمد. كان اليمن قبل النزاع، البلد الذي فيه أعلى نسبة من الأمية بالمنطقة، ويتمّ اليوم خلق جيل جديد من البالغين الأميين، لأن مليوني طفل لا يذهبون إلى المدارس، فهناك أكثر من 2500 مدرسة غير صالحة للاستعمال، إما لأنها تضررت أو دُمّرت بسبب الغارات الجوية أو لأنها أُغلقت بسبب غياب الموظفين، وجزء منها يستعمل كملاجئ للنازحين أو تمّ تسخيرها من طرف المجموعات المسلحة.
وفضلاً عن جيل الأطفال خارج المدارس، فإن المدارس المفتوحة لا تعمل إلا بمستويات دنيا، من دون معدات ووسائل أساسية وبموظفين في كثير من الأحوال لم يتلقوا رواتبهم منذ أكثر من عامين، ما دفع بكثير من المدرّسين إلى ترك العمل باحثين عن مصدر دخل في أماكن أخرى، أو لأنهم بكل بساطة غير قادرين على دفع تكاليف النقل.
وليس التعليم ضرورياً لمستقبل البلاد فحسب، بل هو اليوم وسيلة فعّالة لحماية الأطفال من خطر التجنيد من قبل الحركات المسلحة، ومن العمل في سن مبكرة وأيضاً بالنسبة للفتيات لتجنيبهن الزواج المبكر. ووراء الآثار المترتبة على مستقبل اليمن والناجمة عن غياب التعليم لملايين البالغين، يعاني الأطفال من مشكلات نفسية ستؤثر عليهم على الدوام في فترة ما بعد الحرب.. فهم يتضورون جوعاً ولم يبقَ لهم سوى الجلد على العظم، وهم من الضعف إلى درجة أنهم لم يعودوا قادرين على البكاء أو الحركة.
كما أشارت منظمة اليونيسيف خلال سنة 2018، إلى أنه يموت طفل يمني كل 10 دقائق بسبب سوء التغذية، وأكثر من 7 ملايين طفل يمني يذهبون إلى النوم جياعاً كل ليلة. وعليه، سيعاني كل الأطفال الناجين من سوء التغذية بمستويات مختلفة من إعاقات بدنية وفكرية طيلة حياتهم. وبسبب سوء التغذية المبكر المرتبط بالحرب قتل أو جرح أكثر من 6700 طفل، و85 ألف طفل ماتوا بصفة مباشرة أو غير مباشرة بسبب الجوع، وكذلك بسبب استهداف غارات العدوان السعودي لمنازلهم ولأسرهم.
كما نزح ما يقارب المليون ونصف المليون طفل داخلياً وخارج البلاد، ويعاني الملايين منهم من الصدمات النفسية الناجمة عن القرب من مناطق الحرب، بما في ذلك العديد من الجبهات المشتعلة. وهم يخشون أيضاً هجمات الطائرات من دون طيار والغارات الجوية وأحداث مرعبة أخرى يمكن أن تحدث فجأة في كل مكان من البلاد ليلاً نهاراً. والخوف والرعب الناجمان عن هذه الوضعية إضافة إلى ظروف المعيشة تزداد صعوبة إن لم نقل لا تطاق. كل ذلك يخلق جيلاً من الأشخاص يعانون من أمراض نفسية ولن يكون بمقدور كثير منهم عيش حياة عادية، وبالتالي لن يكون لهم أي دور في إعادة إعمار البلاد بعد نهاية الحرب.
حقيقةً، هذه الحرب بنتائجها الكارثية ستكون سبباً تاريخياً لنهاية الدور السعودي في اليمن، ذلك أن التضحيات التي قدّمها الشعب اليمني على مذبح الحرب، باهظة الثمن ولن تذهب سدىً، وهي من شدة هولها وقساوتها لن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، ولن يستطيع اليمنيون نسيان طعم الدم والنار الذي زرعته مملكة آل سعود في قلب هذا البلد الذي كان سعيداً قبل أن يطلّ عليه ليل آل سعود الطويل.