“نزاز”.. مروية الحرب وتداعياتها
“للذين عبروا شريط أخبار حرب البلاد.. ولم يتسنَ لهم وداع من كانوا بانتظارهم.. أستعيدهم ببعض مني”.
بهذه العبارات سطر الكاتب طلال مرتضى إهداءه في روايته الجديدة الصادرة عن دار بعل السورية بعنوان “نزاز” التي توقف عند كتابتها في نقطة وضعها لتكون الانطلاقة باتجاهين: الأول خلفاً (فلاش باك) والثاني أماماً، من هنا انطلق بالروي معتبراً توقيت الحرب الكونية الثالثة العالمية على بلاده “سورية” هي البداية، بدأ السرد أماماً مع حكاية كذبة الحرية منذ اليوم الأول لشرارة الفتنة وانتهى من الروي حين تحول من مواطن سوري إلى رقم في سجلات اللجوء. واستعاد خلفاً منذ قيامة الحرب من خلال استرجاعات ليوميات متصلة منفصلة، وهنا يكمن الجزء المهم من الرواية حين انطلق من خان السنابل البلدة الريفية -إسقاط على الوضع في سورية وما حل بها-.
ثلاث شخصيات
“نزاز” اصطلاحاً هي الأرض الوابئة التي لم تعد صالحة للحياة، أما فنياً فقد اشتغل الكاتب على فعالية كتابية جديدة، وبما أن شخوص المروية ثانويين بمعنى أنهم يأتون ويذهبون حسب دورهم، فقد اتكأ الروي على البطل وهو الراوي الكاتب، ولأن العمل يحتاج محاكمة وخطة سير، قرر الراوي أن يكون بثلاث شخصيات: الراوي الذي يكتب من خارج الحكاية كمدون، والبطل الذي يجسد الحدث في العمل “ساهر”، والرقيب أي شرطي الكتابة، وهو مخول بحكم سلطته الحفاظ على سير الروي ومراقبة الحدث، ويمكنه الحذف والقص والاعتراض في حال الخروج عن الخط المرسوم سلفاً.
الشائق في “نزاز” هو الحواريات بين الراوي وساهر والرقيب معاً، وقد تصل في بعض الأحيان إلى حد القطيعة بينهم، هذه المروية لم تكن مبنية فقط على ما هو مرسوم لشخوصها، وإنما سيجد القارئ روحه مجبرة بداخلها، لأن الراوي خاطب ماسك الرواية فأحياناً كان يثنيه عن القراءة لبؤس ما يقرأ، وأحياناً أخرى يتدخل كرقيب في جر القارئ إلى النص ليكون بمثابة داعم يحاجج الراوي والبطل عما يفعلونه أثناء الروي والحدث من كتابات تميل إلى الإيحاء الجنسي أو البطل الذي يرتكب إثماً علياً على مرأى القارئ.
الزمان والمكان
كثيراً ما كسر طلال مرتضى الزمن وتمر أحداث “نزاز” بسلاسة على القارئ من خلال تبريراته له، ولأن العمل يحكي عن مكانين منفصلين كثيراً ما بدأ الكتابة من أحد شوارع فيينا وختم بشوارع دمشق أو بيروت والعكس كان يحصل في المعمار.
على ضوء شمعة
في تباشير “مهدي” القصيدة كتب طلال مرتضى:
“الكاتب الذي صار خارج نص الحكاية هو أنا.. وقعت أسيراً للتو في شرك الحبكة، ظل سهل الصقيع الممتد حتى ضفاف الدانوب، هززت شجرة الذكريات كي أتعطّر بما تيسر لي مما بقي عالقاً على مشجب البلاد التي لفظتني مثل ولد عاق. عدت إلى الوراء بفعالية الخطف خلفاً “فلاش باك” لبرهة، كان مخاض المنولوج عسيراً في كل المطالع، فالجعبة خاوية إلا من جملة الخسارات التي ما فتئت تنزاح واحدة حتى تتجلى أخرى، وكأن يد القدر شاءت أن ترمي بكل خيباتها على عاتق هامشي المتخم بالانكسارات.. الليل بدا مثل غريب لا ظلّ له، تلّحَف بالصمت وتفلت كقفلة قصيدة ناشز لا يدري في أي السطور يهجع، لهذا كان لا بد من كسر رتم النسق في القصة.
ليل المغترب يحتاج أن تُولِم له كل ممكناتك لتبدد صقيعه، جلّ ما أحتاجه في لحظات السكون هذه أن أستعير عواء ذئب جائح ليصدح في صحراء الروح الفارغة، عواؤه أشبه بمعزوفة “تشيللو” تخرجك عن طورك المألوف، تودي بك نحو نواصي الورق كأقل خسارة تُمني بها دفتر الخيبات المتراكمة.. فأنا أدرك بأن هذا الليل يشبهني في اليتم، في الهباء، في السكون، حتى إن الفرق بسيط جداً بيننا، قد نتعادل واحدة بواحدة أو قد أضاهيه بأخرى، حين امتلكت أربعة جدران وسقفاً كئيب الضوء، بينما بقي هو متلفتاً في شوارع عزلته الباردة، ينظر نحوي من خلف النافذة العجفاء ويصفر شزراً.. لا شك أنّي بت أشعر بالتواد بيننا، كأخ لم تلده أمي ورضيت به أنيساً على الرغم من طبع الغدر الذي يعتريه لحظة انشغالي عنه، ليدس سمّه في عظامي مثل مخدر منتهي الصلاحية، كان يعرف أن في البرد مقتلي فيداهمني.
لا مناص الآن من تنهيدة عابرة –والنص قد قارب الخواتيم وبات يتوسل القفلة- كنزقٍ أخير عند خط النهاية، ترفل أنفاسها على مضض الحبر، ماكان عليّ فتح صندوق الوجع على ضوء شمعة “تبتبت” لحن انطفائها بالبكاء، لست أدري لفرقة العسل أم من حرقة الفتل؟.
أعرف بالسليقة أن النهايات المفتوحة تجعل من القارئ المفترض شريكاً، لكنه التوجس الذي يسكنني وأنا أدخل تلافيف دماغه المتعطنة، لأن تأويلاته اللامحسوبة سوف تشدّه نحو الشبهة التي تحاشيت السقوط في غياهبها، لذلك تعمدت أن أسدّ نهم قفلتي بنهاية مشرفة، أخالها كلاسيكية المعطى أو أقرب إلى نهاية فيلم درامي يدمغ بكلمة “END” عند زواج البطل من البطلة أو موتهما، هذا عدا عن موكب النقاد الذين لن يتوقفوا عن دس ترهاتهم طي مفاز النص، وفي أحسن الحالات سأتلمس شماتتهم بعدما تتصدر الصحف في اليوم التالي عناوينهم السليطة بالمجاز المبطن، وما نقدناهم ولكن كانوا نصوصهم يكسرون.
كان قرار العودة إلى الورقة والقلم، مقابل إخماد هذا الدخيل الذي لا ينفك عن مشاغلتي بنقله لأخبار الحرب وويلاتها في تلك البقعة التي وسمتها على روحي ببلدي، أخف خسارات الوقت.
بعد فسحة صمتي بقليل وقبل استيقاظ أصابعي من شهوة الكتابة تماماً عند أطراف سهل اللغة الممتنع وقت تجمهرت عقارب الساعة فوق رأس منتصف القصيدة، جاء البيان:
الشاعر الحالم جلَّ ما يشغله اجتراع قصيدة لم يزن وزنها شاعر قبله، لا ضير لو نثرها نصاً متماهياً في غموضه حد الدهشة فوق يباب ديوان نامت دوال معانيه في قلب الشاعر.. القصيدة ذاتها لم تعمّر طويلاً، حين عاد بها إلى البيت بقي طوال الطريق متأبطاً الصحيفة التي نشرها، مثل عشيقة لا ينفك عن شم حبرها المائز. استفاق متوهلاً على حلم بغيض حينما وجد زوجته تمسح بها زجاج النوافذ، تمتم بحرقة: والكاظمين الغيظ. لم يسكت بل دوّن احتجاجه كأضعف الأوزان على شريط المهجة العاجل: والحبر إن الشعر لفي قهر.
إن الكاتب الذي ما فتئ يتلمس زجاج غرفته في المغترب البعيد، بحثاً في المجاز عن كسرة قصيدة قبل عشرين عاماً مسحت زوجته بها آخر حلم له هو أنا.
منذ تلك الواقعة أيقنت بأن لا قيامة للشعر وأن انتظار مهدي القصيدة بدعة حقة يراد بها الحضور، اجترعها شيطان القريحة كي يجبر بها كسر رتم المقال.
ما أدهى هذا الليل رغم بؤسه، رغم البرد الهاجع في كل تفاصيله لا ينفك عن نكز خاصرة الذاكرة، يدس أصابعه في أنف الوجع ليعطس من نخاعه، ثم يلملم ما تبقى من خيوطه وينهج متخففاً نحو سكة قطار الصبح، بانتظار موكب الشمس القادم من شرق كوكب الحكاية”.
جمان بركات