الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

“في حضرة باب الجابية”..المكان والناس المهمشون

 

 

ينطلق أيمن الحسن في روايته “في حضرة باب الجابية” من باب الجابية إلى فضاء الرواية الفسيح، ليجعل هذا المكان الذي يجتمع فيه العمال المهمشون ينتظرون من يأتي ليأخذهم للعمل في ورشات البناء.

“المكان والناس المهمشون” عنوان اللقاء الحواري الذي أقامه اتحاد كتاب العرب –فرع دمشق- لمناقشة هذا العمل الأدبي ليكون مقدمة لتوسيع دائرة الثقافة وتحقيق حرية التفكير واحترام الرأي والرأي الآخر، والخروج من ذاتنا إلى فضاء أدبي إبداعي واعد يحلم فيه الجميع، ومنها لتأسيس حركة ثقافية ونقدية في وطننا الحبيب كما عبر عنها مدير الندوة صبحي سعيد.

ذاكرة المكان

والأديب ديب علي حسن مغرم بذاكرة المكان فيراه في رواية حنا مينه “المصابيح الزرق” لم يكن بهياً وجميلاً كما هو في رواية “في حضرة باب الجابية” وتحدث عن هذه الذاكرة قائلاً:

يذكرني عنوان الرواية بدلالات جمع الكاتب ما بين الحضرة المدنية والقدسية، هذه الحضرة التي تسمو كثيراً لنتساءل: أهي حضرة الصوفية أم حضرة الحياة أم الصبي الذي كان يشاغب مع أبيه، أم حضرة المجتمع الجامع لألوان الطيف كافة، و”في حضرة باب الجابية” هناك العمق الاجتماعي الذي نتحدث عنه، حيث أيمن الحسن حاضر في هذه الرواية، وقد أقنعنا ببراعة القول أنها صفحة من حياته، ودعا ديب حسن إلى المزيد من العمق في الدراسات الأدبية النقدية في الرواية العربية لدراسة المكان، فالشعر أشبع بدراسة المكان.

لعبة الإخفاء والإظهار

كما يقع على عاتق الأديب تفهـّم الواقع، وتمثـّل الأفكار والمشاعر والأحداث ليـُنتج منها أفكاراً وليدة، وليؤثـّرَ في وعي القارئ وطريقة تصوّره للعالم، وهذا ما عمل عليه الأديب أيمن الحسن في روايته عبر تناوله لعالم المهمشين في مكان لازال حتى اللحظة يمثل فضاء لهؤلاء الناس الوافدين من كل المدن السورية، وعن واقع الإنسان المهزوم في الرواية قالت الإعلامية سلوى عباس:

وضعنا أيمن الحسن في أجواء ذلك الزمن وطباع ناسه ومزاجهم وأهوائهم، سكبها في قالب روائي بأسلوب سلس وشفاف وبكثير من المصداقية، فشكل أحد التّجليات المحوريّة للسّارد الذي حاك مصائر الشخصيّات بحرفيّة قرّبتها كثيراً من نماذج الواقع، فلمْ تبقَ مجرّد كائنات ورقيّة تنتجها مخيّلة كاتب ورغباته.

انطلق أديبنا في تفاصيل روايته نحو مناطق غائرة في الجرح الإنساني وفي تاريخ الذات السورية المثقلة بأوجاعها الإنسانية والتاريخية، واستطاع مع هذه التداعيات القفز باتجاه تنمية الإحساس بالمسؤولية عند أبناء جيله، منبهاً إلى دور الكلمة التي تستدعي العلاقة بها حماية الثقافة، والأخلاق، ومحبة الوطن، ورمى بأوراقه الرومانسية في نسيج لغوي على خلفية تبادل فيها عمليتي الظهور والاختباء وراء الوصول إلى الحقيقة، وهي الفكرة الأولى والأخيرة خلف تداعياته.

كذلك استحضر المؤلف شخصيات لها حضورها في خزان ذاكرته، ووصف طباعها، وعلاقاتها مع البيئة، حيث سيطر القلق والتوتر الدرامي على طريقة حوارها دون أن تفقد شرعيتها في أمن المكان، وخصوصيته الموحدة، ومما لا شك فيه أن عنوان الرواية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعدة إشارات أسلوبية كشفت أبعادها تصرفات تلك الشخصيات، كلاً حسب الدور الذي أوكل إليه من قبل الراوي الحسن، وهنا يمكننا القول: إنَّ هذا التوتُّر بين الزمانين القديم والجديد شبيه بالتوتر بين الأرض والعالم، إنه لعبة الإخفاء والإظهار.

مفاتيح

وتندرج رواية “في حضرة الجابية- طفل البسطة” في إطار الأدب الواقعي الملتزم بقضايا الفقراء والمظلومين والمهمشين الذين لا تهتم بهم كتب التاريخ، هؤلاء العمال المياومون الباحثون عن فرصة عمل، يتكاتفون مع بعضهم حيناً وتتجاذبهم أحياناً الأطماع والصراعات والتنافس فيما بينهم لتحقيق مكسب صغير بالكاد يكفي قوتهم اليومي، وتحت عنوان “تاريخ من لا تاريخ له” تحدث الأديب عماد الدين إبراهيم:

حين نذكر الباب يتداعى إلى ذهننا المفتاح، وقد مهد المؤلف أيمن الحسن للولوج إلى باب روايته بستة مفاتيح هي على التوالي:

مفتاح الإهداء، يقول فيه إلى زمن ارتفعت فيه صيحة مع تحية من القلب لروح الفنان فريد الأطرش.

مفتاح الاقتباس للأديب اليوناني نيكوس كازانتزاكي من كتابه تقرير إلى “غريكو” هو قول وصلاة: ثلاثة أنواع من الأرواح ثلاث صلوات الأول أنا قوس بين يديك ياإلهي فشدني لئلا أتفسخ، والثانية لا تشدني كثيراً كي لا أتحطم، الثالثة إلهي شدني ما استطعت فمن سيهتم لتحطمي، ومفتاح ملحوظة مخاتلة لباب الهروب بأن أي تشابه في الأسماء هو محض مصادفة وقد صارت دالة على واقعية الأسماء وحقيقتها، ليصل بنا إلى مفتاح مقولة للصوفي ابن عربي كتمان المحبة حجاب فإنه دليل على عدم استحكام سلطانها، ومفتاح أول الحمام وفيه نقرأ عن جريمة الثأر التي يرتكبها إسماعيل حين يقتل ابن قريته، لنصل بعد ذلك إلى الباب الأول “سيرهم المأثورة”.

هذه المفاتيح التمهيدية لأول مرة ترد في عمل روائي فهي تثير الفضول وتدفعنا للتساؤل ما الغاية منها؟ لماذا لم يكتف بعنوان وإهداء مثلاً؟ ربما أراد الكاتب من خلال هذه المفاتيح جذب القارئ منذ اللحظة الأولى وضع هذه الطعوم أمامه ليقرأ الرواية حتى آخر صفحة، مكثفاً في بعضها ما عبّر عنه في ثنايا السرد، وملمحاً لأفكار أخرى لم يعطها ما تستحق من إفاضة وتفصيل كما أنها نوع من الهيمنة الثقافية على القارئ لإشعاره بأنه أمام كاتب ممتلئ معرفياً، فقد تؤتي هذه اللعبة أكلها، والغاية من كل ذلك هي شد القارئ إلى الرواية. وهذه التقنية لم تقتصر على بداية الرواية بل عمد الكاتب في نهاية الرواية إلى تكرارها في “ختام الحمام”.

ويضيف إبراهيم: لعل أكثر ما يلفت النظر في الرواية هو حضور الأغنية بشكل كبير في ثنايا السرد والحوار، كدافع للسرد إلى الأمام ومحفز للشخصيات على البوح والتذكر والاسترسال، وكانت الأغنية معبراً عن كثير من الأفكار والمواقف لبعض الشخصيات في الرواية، لا بل أحياناً كانت بديلاً عن الحوار.

تبدأ رواية “في حضرة باب الجابية- طفل البسطة بالموت ثأراً وتنتهي بالموت مبادلة “صداح” وقتلاً “ضبع الليل” حتى الصحفي “عادل” الذي درس وتعلّم ليخرج من هذا الواقع نراه يعود إليه مجبراً، وكأن الكاتب أراد القول أن مصير الفقراء هو الموت إما بسبب التمسك بالعادات البالية القديمة أو الموت البطيء بسبب المعاناة وقسوة الحياة وسوء الأحوال أو الفشل في تحقيق الآمال والطموحات، هنا يأتي دور الغناء للتخفيف من وطأة هذا الواقع.

مؤلف بارع

ويجد د. عبد الكريم حسين الرواية كعمل إبداعي ومميز قياساً بإبداع مؤلفه الروائي أيمن الحسن بعد ذروة توهجه في السرد الروائي الممزوج بالسيرة الذاتية حتى النخاع حيث قال:

عرض الكاتب في الرواية رؤيته وتاريخ أسرته من تل العمارنة إلى باب الجابية. غلب على الرواية فكرة رواية الشخصيات رغم تأكيد المؤلف أنها رواية مكان الذي لم يبرز كمؤشر قوي في الشخصيات لكنها مؤثرة في سكان المكان، وحضرت الأماكن الأخرى فيه من باب الاسترجاع والحنين إلى الماضي.

كان المؤلف بارعاً في سرده واتكائه على الأغاني لفريد الأطرش ووديع الصافي وفيروز وغيرهم، وكأن الأغاني تعبر عن الشخصية أكثر من مواقفها أو تأويلها، وكأنها استراحة من الحدث والسرد إلى وهج الغناء.

جمان بركات