ثقافةصحيفة البعث

“كروم اللولو” وفلسفة الأخوين رحباني الموسيقية

 

في دراسة حول الظاهرة الرحبانية نشرت في مجلة الطريق يقول الناقد الموسيقي السوري الراحل نجاة قصاب حسن:إن عاصي ومنصور استطاعا أن يدخلا على الموسيقى العربية جملة من التطورات الجوهرية من أهمها تقصير الأغنية، وتلوين مواضيعها، وابتداع لغة غنائية تستمد خصائصها من ضرورات اللحن.

وفي كتابه عن الأغنية الرحبانية يقول الناقد الموسيقي اللبناني نزار مروة:إنّ الأغنية الرحبانية إنما ظهرت منذ بداياتها الأولى متميزة ومختلفة عن السائد في الفن الغنائي، فهي المرة الأولى التي تنشأ فيها أغنية تؤكد على وحدة فنية متوازنة ومتقنة بين النص واللحن.

هذا بالعموم، لكن في دراسة تحليلية عن موسيقى الرحابنة بعنوان “كروم اللولو” “شو بيبقى من الرواية” أنموذجا، يضعنا الباحث الموسيقي جمال سامي عواد أمام فلسفة أخرى لموسيقى الأخوين رحباني تربط بين الفن وصور الحياة، في أمسية موسيقية تحليلية تخصصية قدمها في المركز الثقافي العربي بحمص، ضمن نشاط مشروع المدى الثقافي، وفيها ينطلق عواد من القصة الأزلية عن الريح وأوراق الشجر اليابس، وريقات صفراء يابسة تنفصل بهدوء عن الشجرة في الخريف وتتناقلها هبات الريح وتقلبها لتحط بها بعد ذلك بانسياب أمام عتبة كوخ عتيق.. هذه الصورة الشعرية ترسمها نوتات منفردة تتساقط بهدوء على شجرة البيانو، وتفر منه كطيور سنونو تخرج تباعا من تحت سطح قرميد، بسيطة بلحنها وأسلوبها ووزنها، كما لو أن طفلا يعزفها بسبابته على البيانو، في مقدمة أغنية “شو بيبقى من الرواية، شو بيبقى من الشجر، شو بيبقى من الشوارع، شو بيبقى من السهر..” حيث. يصور البيانو حالة سقوط الورقة عن الشجرة وتطايرها إلى الأعلى ومن ثم سقوطها على الأرض.

يقدم عواد في هذا السياق ثلاث ملاحظات من ناحية التركيب اللحني، والإيقاع والموسيقى المرافقة، والتوزيع الموسيقي، ملاحظات تكشف عن جانب مهم من جوانب الجمال التعبيري في هذه الأغنية، ومن حيث التركيب اللحني يرى عواد أن فيروز تقولها تباعا عبر ثنائيتين من الأسئلة تتسم بأنها تنتهي بنبرة استفهام استنكاري نصوغه عادة عندما نكون عارفين الإجابة ورافضين لها في الوقت نفسه، حيث ترتفع نغمة الجزء الأخير من السؤال، فاللحن في جملة “شو بيبقى من الرواية” مركب من درجتين، درجة سي إلى دو، والفرق بينهما نصف صوت، أو بُعد، أما لحن “شو بيبقى من الشجر”فهو مركب أيضا على درجتين سي إلى مي والفرق بينهما بُعدين ونصف.

أما من ناحية الإيقاع فيلاحظ أن نغمات آلة”الترومبيت” المرافقة للحن لم تأت في أماكن الضغط القوي إنما جاءت في أماكن الضغط الضعيف من اللحن، بما يوحي بالتبعثر لمحاكاة انفصال الأوراق عن الشجر.

أما من ناحية المرافقة الموسيقية في هذا المقطع فهي تقتصر فقط، على الضربات الواضحة التي تؤديها آلة الغيتار وتسمى “الكوردات” متزامنة مع نهاية كل سؤال مكونة بطريقة توحي برسم نهايات مختلطة بين الاستفهام والتقرير والاستنكار.

أما من الناحية الإيقاعية فالتصاعد يتجلى في تغيير طبيعة الضربات الإيقاعية البسيطة التي رافقت المغنى لتتضاعف سرعتها وتصبح أكثر وضوحا وتوترا.      أما المظهر الثالث للتصاعد في الموسيقى المرافقة في الخلفية يجد أن الوتريات تبدأ في تصعيد يعطي إحساس القلق والتوتر، تشكل تركيبات لحنية معقدة لحركة إضراب متواترة. تلك التوزيعات في الخلفية تصل إلى ذروة المقام في عبارة “شو بيبقى يا حبيبي” التي تطيلها فيروز بشكل واضح، ونسمع في الخلفية الموسيقية لهذه الجملة إعصارا هائلا تصنعه الوتريات يهبط إلى أدنى درجات المقام، ثم يعلو إلى أعلى درجة فيه مرة أخرى ويصمت بشكل نهائي ومفاجئ مع نهاية الجملة الغنائية، وفي هذه اللحظة تصطدم كل الانفعالات والمشاعر بجواب بسيط وهادئ وهو: “بيبقى قصص صغيرة عم بتشردها الريح…”

واستكمالا للصورة تبدأ هنا زوبعة جديدة تشتد ليبدأ الإيقاع بالتحول إلى غربي راقص، وترسم الموسيقى صورة لحركة الرياح تحمل ماتبقى من الرواية “قصص صغيرة عم بتشردها الريح”.

آصف إبراهيم