ذلك المساء الطويل (5)
د. نضال الصالح
لكلّ منّا مساؤه يا جُمان، مساؤه الطويل، مثل كثير من السوريين الذين نهشت هذه الحرب أرواحهم قبل بيوتهم، الحرب التي أدمت بمخالبها الحادة حياتهم، فغادر بعضهم بيته إلى آخر، أو مدينته إلى أخرى، أو سورية إلى دولة أخرى، وقضى بعضهم بغير سبب، وفقد بعضهم جزءاً من جسده، و… لكلّ سوري مساؤه الطويل الذي لمّا يزل حالكاً منذ نحو ثماني سنوات.
أنا الآن هنا مثلك من دون وطن، وأسرة، وأصدقاء.. قلت أصدقاء؟ آه يا جُمان، أعني كان لي أصدقاء كشفت هذه الحرب عن يهوذا أو بروتوس في كلّ منهم، حدّ القتل، وهم يرددون: “أنا، ومن بعدي الطوفان” كما كانت جين أنطوانيت بواسون، عشيقة ملك فرنسة لويس الخامس عشر، تردد ، وكما كان لويس نفسه يردّد. هل أحدّثك يا جُمان عن حسن الذي باعني في أوّل امتحان للوفاء، وللصدق مع الذات، وللحقّ والحقيقة، والذي دفعت بسببه غير ضريبة، ثمّ آثر أن ينجو بنفسه ولسان حاله يردّد: “أنا ومن بعدي الطوفان”؟ آه يا جُمان، ما أقسى أن يفقد الإنسان وطناً ومَن كان يعتقد أنه يمكن أن يكون أيّ شيء سوى تاجر لا يعنيه من الآخر سوى ما يكسب.
كنتُ أحدّث نفسي ذلك بينما عينا جُمان الفاتنتان، على صغرهما، تصخبان بغير سؤال عن سرّ الحزن الذي غزا روحي فجأة، وبينما يداي تبحثان عن جثّة سيكارة في علبة السكائر التي كانت جُمان هرستها بكل ما تستطيع من قوّة لأطفئ لظى ذلك الحزن الذي استعر كما تصخب أرض بزلزلة، فتتصدّع، ثمّ تصير أخاديد وأثلاماً مضرّجة بالبكاء.
عادت جُمان فاختطفت علبة السكائر من يدي وهي تستعيد عبارتها: “من أجلي”، وتضيف: “قلتُ لك من أجلي”، ولم تكد تكمل، حتى كنت أتلظّى فوق جمر الضراعة في صوتها، وعذوبته، ورقّته، وصدقه الآسر، وأستعيد، كما تعبر صور في شريط سينمائي، صور بيتي الذي وضع الإرهابيون أمامه سيارة مفخّخة، فصار إلى حجارة مثخنة بالسواد. قلت: “جثة سيكارة يا جُمان أرجوك”، فرددت: “قلت لك من أجلي”، وغصّت عيناها بالدمع وهي تتابع: “أنت تقتل نفسك”، ثمّ: “ألا يكفينا ما عانينا ونعاني الموت، والموت المجّاني كثيراً؟”. قلتُ: “منذ ذلك المساء يا جُمان، منذ نحو ثماني سنوات”.
ثماني سنوات مرت، أو تكاد! أيّ مساء طويل هذا الذي لمّا يزل يجثم على قلوب السوريين وأرواحهم؟ أيّ ليل طويل لمّا يزل يرخي سدوله بأنواع الهموم ليبتلي كما قال شاعر قديم؟ أيّ ظلمات، عربية وغير عربية، تلك التي توزّع الموت والقهر والدمار والهجرات على السوريين، على سورية التي كانت مضرب المثل في الحياة؟ كنت أهذي، لا بدّ أنني كنت أهذي، وأغيب عن الزمان والمكان، وإلا لما كان خُيّل إليّ أنّ جُمان غادرت مقعدها المواجه لي، وأحاطتني بذراعيها، ثم أنهضتني، ثم قبّلتني قبلتين أحسست فور استضاءة خديّ بدفئهما أنّ قدميّ ترتفعان بي عن الأرض، ثم ينبت لي جناحان، ثمّ أجد نفسي أمام بيتي في حلب، بيتي كما كان قبل أن تمتد إليه مخالب الموت.