ثقافةصحيفة البعث

“حجر الصبر”.. امرأة بلا اسم صورة الكثير من النساء

 

في العام 2005 تداول الناس خبراً يبدو عادياً في مجتمع يرفض رفضاً قاطعاً أن يكون للمرأة كلمتها فكيف بها وقد بثت كلماتها ولواعجها عبر ديوان شعري، كان الخبر عن مقتل الشاعرة الأفغانية “ناديا أنجمان” على يد زوجها الأستاذ الجامعي بعد أن قام بضربها حتى ماتت متأثرة بجروحها، كان ذلك بعد إصدارها ديوانها الشعري الأول، بعد ذلك حاول الزوج الانتحار إلا أنه فشل في الأمر، ليدخل في غيبوبة عميقة لا مخرج منها. هذه الحادثة هزّت مشاعر الكثيرين ومن بينهم الشاعر والكاتب والمخرج السينمائي الأفغاني “عتيق رحيمي” الذي استوحى منها روايته “حجر الصبر” ولذا فهو كان حاول قبل البدء بالعمل التواصل مع الزوج بغية الدخول إلى أعماق عالَمِ أستاذٍ جامعي يلجأ إلى قتل زوجته لأسباب اجتماعية بحتة لعله لا يؤمن بها، لكن العرف هو ما دفعه لارتكاب جريمته، ولمعرفة ما كان يدور في رأسه حين قام بفعلته تلك، لكن الكاتب لم يخرج من زياراته للزوج بفائدة تذكر إذ كان الأخير في حالة غيبوبة تامة لا تمكنه من التواصل مع أي كان.

قيمة رهان
تدور رواية رحيمي التي أتت في حوالي 117 صفحة في منطقة ما من أفغانستان، رواية قصيرة نسبياً إلا أنها تحمل من التشويق والعمق ما يكفي كي تلتصق بالذاكرة طويلاً، وهي تحكي قصة امرأة أفغانية أدمن والدها المقامرة بكل شيء حتى وصل به الأمر إلى ابنته شقيقتها الكبرى وحدث أن الرجل: “إذ لم يعد لديه مال لتسديد الرهان، تنازل عن أختي، وكان على أختي البالغة اثنتي عشرة سنة أن تذهب إلى رجل عمره أربعون سنة.. وكنت خائفة من أن أصبح أنا أيضاً قيمة رهان”. لن يحدث الأمر ولكنها ستكون زوجة لمجاهد غائب تنتظر عودته أكثر من أعوام ثلاثة.
هي مجرد امرأة في الرواية بلا اسم محدد “لعله بذلك أراد رحيمي أن تكون صورة نساء أفغانستان ولسان حالهن جميعاً في مجتمع منغلق متخلف. ستحكي حكايتها مع زوج انتظرته طويلاً تحت رعاية والده المقرب إليها ووالدته التي كانت تنام إلى جانبها طوال تلك الفترة حفاظاً على “عفة” زوجة ابنها المجاهد الذي اختار خوض حروبه ضد أعداء وهميين ولأجل لا لشيء محدد ليصاب في إحدى تلك المعارك بشظية كبيرة في الرقبة، لا هي قضت عليه تماماً ولا تركته يعود إلى حياته الطبيعية بل جعلته يدخل في غيبوبة تامة أقرب إلى الميت منه إلى الحي، في منزلهما الزوجي الذي لا يتجاوز الغرفة الواحدة بأثاث بسيط وفقير.
لم تتخل الزوجة عن شريكها “الحي الميت” وقد عملت على خدمته على أكمل وجه تنظفه وتعقم جروحه وتغذيه جيداً وتعتني بطفلتيها وبيتها. وحاله كذلك فقد وجدت فيه الحاضر جسداً والغائب فعلاً وجدت الفرصة لأن تمارس من الفعل ما مُنعت عنه طويلاً، فعل الكلام والبوح بكامل حريتها جاعلة منه حجر صبرها، عنوان الرواية. والعنوان مستوحى من أسطورة أفغانية قديمة أصلها فارسي حول حجر يقصده المعذبون والمضطهدون للبوح بآلامهم وأحزان فإن امتلأ الحجر بمكنوناتهم انفجر بعدها لتزول هموم كل من لاذ به.

تجاوز المحظورات
هكذا اختارت المرأة التي لا اسم لها أن تجعل من الزوج حجر صبر خاص بها تبوح أمامه بآلامها وهمومها، تكلمه وتتحدث إليه بكل حرية وبكل ما لم تكن تجرؤ على التحدث به من قبل غير عابئة بالمحظورات والممنوعات وكأنها تثأر لنفسها ولسواها من النساء: “أنت حجر الصبر الخاص بي، سأقول لك كل شيء، ياحجر صبري، كل شيء إلى أن أتخلص من عذاباتي، من مصائبي.. علك تنفجر بعدها” تحدثه عن الأبناء وخشيتها عليهم، عن خوف عانت منه أن تقوم والدته بتزويجه وقد تأخرت في الإنجاب، عن الحب المحرم والمشاعر المكبوتة، عن همومها وهموم سواها عن عمتها وشقيقتها والكثير من الأسرار الصغيرة، ستتكلم بحرية تامة وسوف يستمع صاغراً لا قدرة له على منع الأمر، تغضب منه وتنقم عليه حيناً: “الأجدر أن تصيبك رصاصة طائشة وتقضي عليك قضاء مبرما” وتسخر منه ومن عائلته وتشتمه حيناً آخر: “لن يأت المُلّا هذا اليوم، يخاف من الرصاصات الطائشة، كما أنه جبان مثل إخوتك” وتكمل “أنتم الرجال، أنتم جبناء كلكم”. ثم تعود لترجو الإله أن يساعده على الشفاء: “عد أتوسل إليك قبل أن أفقد الرشد، عد لا لشيء إلا من أجل ابنتيك، يارب هيّئ له العودة إلى الحياة” ولذا فهي لجأت إلى الحكاية الدائمة تمثّلَت شهرزاد إذ تروي قصصها على أميرها كل مساء، ولكن ليس لتنجو من تهديد بالموت، بل لتبعد الموت “عن رَجُلِها” تحكي الحكاية كي تنجيه من الرحيل كي تعيده إلى الحياة.

السر الكبير
ستمر بالزوجة وقد اختارت رعايتها الرجل الغائب عن الحياة ستمر بها العديد من الأحداث تتعرض في إحدى المرات لإطلاق الرصاص، ويتعرض البيت للقذائف ويكاد ينهار على ساكنيه، ويمر بالبيت الكثير من الزوار، تتعرض للتحرش من أحد المجاهدين، وتخرج أحياناً هي طلباً لإسكات رغباتها، هكذا يسير بنا رحيمي وبالمرأة ليصل بالرواية إلى نهاية غير منتظرة، صادمة ومربكة، حين تذهب المرأة في بوحها إلى أقصى الحدود، لتعترف له بسر كبير أخفته منذ بداية حياتها معه وقد تأخرت في الإنجاب. في مجتمع منغلق فالأمر يفتح الباب واسعاً على أسباب إضافية لاضطهادها والانتقاص من إنسانيتها، وسوف تحمل وزر تلك النقيصة حتى وإن لم تكن العلة فيها، ستلجأ إلى خيانته بحثاً عن وسيلة للإنجاب حرصاً على استمرار الزواج، تبوح بالسر الكبير أمام زوج لا قدرة لديه على الكلام أو أي فعل آخر، لكن رحيمي يختار أن ينهي روايته بحركة لا إرادية من الرجل تمكنه من إنهاء حياة الزوجة التي: “لبثت بلا حراك، مصعوقة فاغرة الفم على كلمات معلقة، ثم إن الرجل انتصب واقفاً على حين بغتة، كصخرة صلبة وجافة رُفِعتْ بحركة خاطفة: “هذه..هذه أعجوبة! إنه البعث” قالت بصوت مخنوق رعباً: “كنت أعلم أن أسراري ستعيدك إلى الحياة” جذب الرجل الذي ما زال متصلباً وبارداً المرأة بشعرها وجرها إلى منتصف الغرفة. ضرب رأسها بالأرض مراراً، قبل أن يقصف رقبتها بحركة خاطفة”.

دون تشذيب
عبر تلك الحكاية يعرض الكاتب حال البلاد دون تشذيب خلال حكم الطالبان لأفغانستان، ويعرض للقهر الذي هو حال المرأة فيها، يتحدث عن الواقع الاجتماعي، عاداته وتقاليده، يقدم الرجل في صورة الخائن والمتجبر أو الخاسر المهزوم، صورة مشوهة متمثلة حيناً بالمُلّا أو برجال الطالبان حيناً آخر، بينما المرأة كسيرة أو ضحية حتى حين تَقتُل، وغالباً هي تلك التي لا تقوم حياتها إلّا في ظل رجل وإن كان عاجزاً أو كما في حال الزوج الحي الميت.
هكذا بأسلوبها السردي الشعري الأقرب إلى المونودراما في كثير من أجزائها، تأتي رواية “حجر الصبر” القصيرة نوعاً ما والتي اقتصرت شخوصها على أربعة أشخاص فقط لكن كل منهم هو صورة عن شريحة واسعة من المجتمع الأفغاني تحديداً وربما صورة كثير من المجتمعات الشرقية، بلغة بسيطة إنما تحمل دلالاتها ورمزيتها لتكون بحق صورة طبيعية ومرآة حقيقية لما يجري في مجتمع لا يعرف لغة سوى لغة السلاح والعنف والقتل ويرفع الجدران عالياً بينه وبين الآخر.
الرواية التي تؤرخ لحقبة زمنية سمتها الرئيسية كره الآخر والظلم والاضطهاد، حقبة مازالت صورتها مستمرة بشكل أو بآخر في الكثير من البلدان، نال عنها عتيق رحيمي جائزة غونكور في الأدب الفرنسي عام 2008، وتم تحويلها إلى فيلم سينمائي يحمل ذات الاسم.
بشرى الحكيم