ثقافةصحيفة البعث

“بريد الليل” ..رسائل الناس المستوحشة

 

منذ روايتها الأولى “حجر الضحك “1990 واللبنانية هدى بركات تفرض ذاتها كقلم بارع في رسم وابتكار عوالم روائية مدماكها هموم وتطلعات الإنسان العربي المستوحش الباحث عن أفق يخرجه من حالة التشظي إلى التماسك والاستقرار، متبنية الإفصاح، بجرأة ومباشرة، عما يمور في وجدانه من انفعالات مسكوت عنها. عن هذه العوالم المبتكرة نالت جوائز عديدة كان آخرها جائزة العويس الخامسة عشرة، واليوم تصل روايتها الأخيرة “بريد الليل” الصادرة حديثا عن دار الآداب اللبنانية إلى القائمة القصيرة المرشحة لجائزة البوكر العربية.
في بريد الليل تضعنا بركات أمام رواية غير تقليدية من حيث أسلوب السرد الروائي وافتقادها للعناصر الفنية من مكان وزمان وتسلسل أحداث، رواية تتطلب من القارئ التأني في التقاط التفاصيل وربطها بعضها ببعض لأنها من نوع المتداخل العصي على التقفي، رواية بلا أسماء محددة مؤلفة من قسمين: في القسم الأول “خلف النافذة” نقرأ خمس رسائل لشخصيات تعيش متاهات وجودية وحالة اغتراب مزدوجة في الوطن وفي الغربة.شخصيات محبطة تشكو قسوة الحياة ضمن مجتمعات مأزومة زادتها أحداث السنوات الأخيرة تأزما واغترابا، شخصيات بنهايات مأساوية مسدودة الأفق تبحث عن متنفس يرمم حالة الانكسار والهزيمة، ولو عبر رسالة تبوح فيها عن وحشة تعتريها في غربتها، كتبت في زمن اندثرت فيه الأماكن وضاعت العناوين فهي رسائل يعرف كاتبها مسبقا أنها لن تصل وجهتها أبدا.
في الرسالة الأولى شخص يروي لحبيبته كيف نشأ بلا أهل بعد أن “قذفتني أمي في قطار الأرياف ككيس قمامة…” إلى العاصمة ليتعلم ويسكن في غرفة بائسة..ثم يهاجر ليعمل في صحيفة أسسها جنرال سابق فر من بلاده وجاء يعلم الناس معنى الحرية والديمقراطية، في مفارقات مؤلمة تحاكي جلد الذات.
الرسالة الثانية تتناسل من رحم الأولى كما الرسائل الأخرى فكل رسالة تولد من رحم ما قبلها لتوحد الكاتبة بين مصائر شخوصها، وتربطها ببعضها البعض، رسالة كتبتها امرأة في الخمسين من العمر قتلت زوجها وفرت لتعمل خادمة في فندق بإحدى الدول، قررت الكتابة إلى رجل تحلم أن يحبها إلى الأبد بعد أن عثرت على رسالة الأول في دليل الغرفة..” كأن الرجل الذي ترك الرسالة هنا شخص أليف وأعرفه…”،تكتب رسالة غير مكتملة تنتهي بكلمة”سوف”.
الرسالة الثالثة كتبها رجل إلى أمه من المطار، رجل يحلم بالانعتاق من السجن والانطلاق نحو الحرية.”أنا مريض الآن مريض في حسي، وفي روحي، ولم يعد من أمل في الشفاء،كل ما أحلم به هو الهرب كي لا أموت في السجن..” رسالة أوحت له كتابتها رسالة امرأة وقفت هنا قرب كيس القمامة ألقتها فيه وسافرت عبر المطار، “امرأة انتظرت حبيبها وخاب أملها لأنه لم يأت…”.في إشارة إلى رسالة المرأة السابقة.
رجل يطلب من أمه العفو والغفران، لأنه بسبب عذابه في السجن تحول إلى جلاد “الخوف القديم اقتلع من قلبي الرحمة..” رجل فر من بلاده وعاش مشردا في شوارع الغربة قبل أن تأويه امرأة ستينية تطمع في استغلال شبابه ورجولته،لكنه يقوم بقتلها والهرب فيقبض عليه على متن الطائرة العائدة إلى بلاده،ويترك الرسالة على مقعده لتعثر عليها امرأة تعمل في المطار، تقرر بعد قراءتها، كتابة رسالة إلى أخيها تعده فيها بترميم ما كسر بينهما بعد رحلة شقاء طويلة بدأتها عندما تزوجت في الرابعة عشرة من عمرها وقبض رجال العائلة مهرها، ثم طلاقها وتزمر أهلها من وجودها كمطلقة في المنزل، لتهاجر بحثا عن المال، تاركة ابنتها عهدة لدى أمها لحين عودتها لكن أمها تزوج ابنتها الصغيرة،دون علمها لرجل خليجي يقوم بتشغيلها راقصة وخادمة في ماخور، وصرفت مهرها رشوة لأحد المحامين الذي وعدها بإخراج ولدها من السجن.
تقوم هذه المرأة، كردة فعل، بسرقة صك ملكية البيت ومصاغ أمها،وتزور توقيع أمها وأخوها لتبيع المنزل ثم تسافر لتحضر ابنتها وتفر بها خارج البلاد تاركة والدتها تموت وحيدة على فراشها.
الرسالة الخامسة خطها شاب فقد البصر في إحدى عينيه وتعب من حياة التشرد ومخالطة المنبوذين وعاد ليستعطف والده بتذكيره بأيام الطفولة لعله يأذن له بالعودة،والده الذي أفنى عمره في خدمة الوطن ولم يهن عليه أن يتقاعس ولده عن تأدية واجبه تجاه بلده، رسالة شجعه على كتابتها رسالة امرأة عثر عليها في خزانة البار الذي يعمل فيه.
في القسم الثاني من الرواية والموسوم ب”في المطار” تتوقف الروائية عند شخصية الألباني الذي التقى العربي صاحب الرسالة الثالثة الذي وشى باشتراكه معه في جريمة قتل المرأة الستينية وتم إلقاء القبض عليه وترحيله إلى بلاده، لتخرج الكاتبة عن الإطار العربي إلى حالات مشابهة يعاني منها أبناء دول فقيرة أخرى، في وحدة القدر والمصير.
وتتوقف عند أخ صاحبة الرسالة الرابعة الذي يقرر السفر للبحث عن أخته التي سرقت البيت والمصاغ وتسببت بموت والدتهما بعد أن دخل السجن صونا لشرفها، لقتلها انتقاما لسنوات عمره الضائع في غياهب الأعراف والتقاليد الاجتماعية.
وفي القسم الأخير الخاتمة “موت البوسطجي”حتى ساعي البريد الذي يجول البلاد على دراجته، ويلتقي أناسا بمشارب متعددة يفكر بالهجرة والسفر لأنه فقد عمله بعد ضياع العناوين التي محتها الحرب “…صرت موظفا في مكتب البريد، لا يجول ولا يوزع شيئا، بسبب الحروب، المعارك التي نزلت من السماء أو صعدت إلى جهنم…”
وتنتهي الرواية برسالة يخطها ساعي البريد “..الآن أكتب رسالتي إلى من قد يأتي إلى هنا، وأضعها على بينة واضحة للعيان قرب فهرس الرسائل، فقد أموت قبل أن يصل أحد إلى هذا المركز..”
“بريد الليل” رسالة المستضعفين إلى البشرية،ليل مظلم لا ضوء فيه تقتفي رسائلهم أثره نحو غايتها،وكأنها صراخ بلا صدى، تكرر مقولة كازنتزاكي في رائعته “المسيح يصلب من جديد” لا جدوى يايسوع، لاجدوى، مضى على صلبك ألفا عام ولازال الناس يصلبوك من جديد…”.

آصف إبراهيم