بين الكلمة والصورة
“تكلم حتى أراك”، لم يقل سقراط هذه الجملة التي ذهبت مثلا منذ ألاف السنين وحتى اليوم، بقصد الثرثرة الفارغة، والكلام الذي لا معنى له، كما أنه لم يقل تكلم حتى أعرفك، أو تكلم لأفهمك، بل لأراك، وفي هذا عبرة وفعل مقصود يعنى أنت غير مرئي وأنت صامت، وهذا ما رمى إليه أيضا الإمام علي بن أبي طالب في قوله: “الرجال صناديق مغلقة مفاتيحها الكلام”، حينها لم تكن الكاميرا قد اخترعت بعد، فاللغة العربية، سبقت الصورة الفوتوغرافية بدهور، وكان ابن الهيثم -965م-1040- أول من قدم شرحا عن آلة التصوير في علم البصريات، وإليه تُنسب مبادئ اختراع الكاميرا.
ظهور الكاميرا والصورة، خلق تنافسا بينها وبين اللغة، تنافس يدور حول السؤال التالي: أيهما أقوى في التأثير، الصورة أم الكلمة؟ ولكل شخص رأيه في الموضوع، سواء في الكلام أو الصورة، لكن هذه الرؤى المختلفة، لا تعود بالنفع على الجواب نفسه، ولم تقدمه من الأساس.
“الصورة أقوى من ألف كلمة”، تُنسب هذه العبارة ل “كونفوشيوس” 551 ق م -479 ق م، أي في الزمن الذي لم تكن الكاميرا والصورة موجودتان فيه أساسا، ولعله كان يقصد بالصورة شيئا مختلفا، فهو لم يعرف الكاميرا أساسا، ولا الصورة، ولم تخطر في باله تلك الصورة الناتجة عن الحالة الميكانيكية، وربما ذهب للقول بما معناه:أن ترى الحدث بتفاصيله، فإن هذه الرؤية أقوى من ألف كلمة تصفه لك، لكن “المعلم” كما يناديه الصينيون، قالها –في حال افترضنا أنها له-، بلغته الصينية أولا، دون أن ينتبه ربما أنه لولا الكلمة، لما استطاع حتى أن ينطق هذه العبارة، التي قال فيها المقولة الشهيرة، تلك التي تُنسب إليه، وربما تم نسبها إليه من قبل من يريدون الترويج لهذا الاختراع، على اعتبار أن قائله شخص من أهم فلاسفة العالم في التاريخ، الأمر الذي يضفي على المُنتج الميكانيكي شرعية فلسفية أيضا.
ربما تناسب المقولة (الكونفوشسية) حياة الغرب عموما، خصوصا وأنه صاحب الثورة الصناعية، التي غيرت العالم، تناسب لغته الجافة نسبيا، لكننا كعرب، أبناء لهذه اللغة المبهرة، يناسبنا القول الآخر، بكون الكلمة أقوى من الصورة في التأثير، ولو لم يكن هذا الكلام صحيحا لاندثرت اللغات الآن، ففي البدء كانت الكلمة.
عموما لكل لغة في العالم ميزات تناسب قومها، وميزة اللغة العربية أنها تصويرية، فحديث مثلا يجري بين متكلم ومستمع عن مشكلة ما، بإمكان المستمع فيه،رؤية ما جرى من خلال وصف المتكلم له، كما لو أنه مشهدا سينمائيا يمر في باله، إلا أن مثلا أعظم، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، بأننا نحن أبناء هذه اللغة البديعة، لسنا بحاجة للكاميرا إن أجدنا الكلام والوصف، فما تستطيع الكاميرا فعله بحركة ميكانيكية، استطاعت اللغة العربية حصرا، تقديمه بصريا ولغويا قبل الكاميرات بقرون، والمثل العظيم الذي نضربه كمثال عن قوة الكلمة، وعن كونها قادرة أن تُري من لا يرى،فهو في قصة “يوسف”، قصة مصورة لغويا وكأنها فيلما سينمائيا لا يحتاج لمونتاج حتى، عدا عن كونها من أحسن القصص، كما جاء في بداية السطور الأولى منها: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ)، الرب يتعهد بأنه سيروي للناس أحسن القصص في كتابه الكريم، وهذا ما كان، فمن يقرأ سورة يوسف مثلا من بدايتها إلى نهايتها، سيشاهد كل الأفعال والصور والمشاهد التي جاءت فيها السورة المكتوبة باللغة العربية، نستطيع رؤيتها من خلال الكلام الذي يصف الأحداث، حتى أنه يحدد للقارئ تماما ما يرى: (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، أليس المشهد أو الصورة واضحة ومرئية لغويا هنا، ولا تحتاج للتصوير؟ لقد رأى من قرأ في خياله، كيف قدت زليخة قميص يوسف من دبر، أي من الخلف، وكيف تسابقا إلى الباب، وكيف صدف أن كان زوجها واقفا على الباب، إنه مشهد متكامل، له بداية وذروة ونهاية، والسورة كما قلنا بغنى عن الصورة، بل أن الصورة هي من تقتات عليها، فاللغة فعلت هذا، وأرته لمن يقرأها، ونحن كعرب أبناء بيت الشعر، لسنا أبناء سجن الكلوروفورم، دعونا لا ننسى أن أهم الروايات العالمية “الإخوة كارامازوف” مثلا، فشلت فشلا ذريعا عندما تم العمل لتحويلها إلى صورة، وكان اعتذر أحد أهم المخرجين العالميين عن عدم قدرته، تحويل رواية “مائة عام من العزلة”، إلى فيلم سينمائي، بعد أن بقي يجرب فيها 7 سنوات.
بالتأكيد لا يمكن تجاهل قوة الصورة وتأثيرها في هذا العصر، إلا أننا شاهدنا خلال السنين التي مضت، صورا لا تحصى من الشؤم، تم اللعب فيها بغرض المتاجرة السياسية الرخيصة، ولنزيد في الطنبور نغما، لنفترض أن شخصا ما، دخل إلى إحدى الصالات التي تقيم معرضا للتصوير الضوئي، صور جميلة ولقطات رائعة، لكن فهم ما ترمي إليه صورة ما موجودة في ذلك المعرض، ولتكن صورة لسيدة عجوز متشحة بالسواد وهي تدخن، بينما تجاعيد الزمن واضحة على ملامحها، فماذا يمكن أن يكون المعنى عند من شاهدها؟بالتأكيد سوف تحظى بأكثر من تفسير لها، يختلف هذا التفسير من شخص لآخر، إنها إذا نسبية في التعبير عن نفسها، وهذه نقيصة، فالآراء لن تقول شيئا محددا وواضحا للتعبير عن الحالة، بل مختلف عليها،فيمكن أن تكون الصورة تدل على امرأة عجوز تدخن، أو تدل على امرأة حزينة تدخن، أو صورة لوالدة أحدهم، قام بالتقاط هذه الصورة لها للذكرى، هذا يعني وبعد ما سبق قوله، أن ما تدل عليه الصورة، لا مضمون له إن لم تعبر عنه اللغة، وسيبقى مضمون الصورة نسبيا وغائما ومختلفا، إن سكتت اللغة عن وصفه.
تمّام علي بركات