نوافذ 54

عبد الكريم النّاعم

فيما يرى النّائم، شاهدتُ شيخاً جليل الصورة، يشعّ وجهه بالرضى والحزم، ورغم أنّني لم أره من قبل، عرفتُه في الحلم، أنت لا تدري كيف تجيء الأحلام، ومن أين، ولا أين تذهب، اقتربتُ منه فسلّم ببشاشة، وقرّب لي كرسيّاً وجلستُ قبالته، فقال لي: “أنت محزون”.

قلتُ: “حتى جمام الروح يا سيدي، وأحزاني لا تخصّني وحدي، فأنا على المستوى الشخصيّ همومي أقلّ بما لا يُقاس بمَن أنا منهم.

قال: “ما أعمق مايقلقك هذه الأيام”؟

قلت بصوت مرتفع وواثق: “الفساد يا سيدي، الفساد فقد عمّ وطمّ، حتى أنّه صادر الجلسات التي نجلسها على قلّتها، فلا حديث إلاّ عنه، ولا كلام إلاّ فيه”.

أومأ هادئاً، وعميقا، برأسه ولحيته البيضاء، وقال: “سأريك بعض المقاطع”، وظننتُ أنّه قد سجّل شيئا ما يريدني أنْ أراه، ولكنّه وهو جالس في مكانه حرّك يده في الهواء، فظهرتْ دائرة رسميّة تعجّ بالمراجعين، وأصبحتُ كمَن يعايش مشهداً تلفزيونيّا، تقدّم رجل شبه محنيّ الظهر، يحمل ورقة بيده، من أحد الموظّفين، ورفع يده بالتحية، وقال بصوت خفيض: “السلام عليكم”.

نظر الموظّف إليه بوجه عبوس، ودون أن يردّ السلام وقال له بنبرة زاجرة: “ماذا تريد”؟، قال المواطن بصوت مشحون بالرّجاء: “هذه المعاملة بحاجة لتوقيع سيادتك”، نتَر الورقة من يده وقال له آمراً. “عُدْ بعد أسبوع”، تلطّف الرجل وقال له: “أرجوك الأمر لا يحتمل، إنّه مجرّد توقيع”، زجره الموظّف وقال: “أتعلّمني شغلي، انظر الأكداس من الأوراق، كلّها قبل معاملتك”، وأومأ له بقفا يده أن يذهب وأرفقها بكلمة: “انقلع”.

مسح الشيخ بيده على لحيته فتغيّر المشهد، وفيه أيضا دائرة رسميّة، ومراجعون كُثُر، تقدّم ذات الشخص من أحد الموظّفين، وناوله ورقة وهو يهمّ بالانحناء، وقال له: “سيدي، الله يطوّل عمرك، أرسلَني (…)، وهو يسلّم عليك، وناوله الورقة، ودسَّ فيها شيئا، ففتحها الموظف، وأسقط المدسوس في الدُّرْج، ودون أن ينظر في وجهه، وقّع الورقة وأشار له بقفا يده أن ينصرف، تغيّر المشهد فإذا هما في مسجد ازدحم بالمصلّين، وبينهم ذلك المُراجِع، وقد اصطفّوا للصلاة، وحانت منه التفاتة إلى الذي بجانبه فشاهد ذات الموظّف المُرتشي، خاشعا، مغلَق العينين، داعياً، فارتسمت الدّهشة على وجه مُجاوِره.

حرّك الشيخ يده مرّة ثالثة فشاهدتُ مركزاً حدوديّا يزدحم فيه المُغادرون والقادمون، والموظّفون منهمكون بأشغالهم، وقف أحد الموظّفين وطلب فتح صندوق السيارة الخلفيّ، فحاول السائق التقرّب منه، والتودّد إليه، فقال له بجدّ واضح: “افتح الصندوق”، وحين لم تُجدِ التلميحات فتحه، وبدأ بإنزال الممنوعات، وطلب من موظّف آخر أن يحصيها في ضبط رسميّ، والسائق واقع في المصيدة لا يستطيع فكاكا، في جهة قريبة وقف اثنان من الموظّفين يتحادثان، قال الأوّل: “مِن أين جاءتنا هذه البلوى؟! هذا إنْ استمرّ فسوف يقطع أرزاقنا”، قال الثاني: سنساومه، إنّه جديد في المصلحة”، تغيّر المشهد، الثلاثة يجلسون في غرفة، قال واحد من الاثنين، للذي لا يدع شعرة مخالفة تمرّ: “اسمع يا ابن النّاس، المثل يقول بارك الله بمَن نفّع واستنفع، أسلوبك هذا سيقطع عنّا ما كان يصلنا، وأشار إلى جيب سترته، أجابه بهدوء عميق، ووجه يلوح الحياء فيه: “اسمعني جيدا، أنا رجل لم يدخل قرشُ حرام واحد في حياتي، ولن أُطعِم أبنائي لُقمة حرام، وهذا أنا فلا تحاول”، أجابه: “ما رأيك أن تذهب إلى بيتك وتجلس فيه، ولا نريد منك أن تأتي إلى وظيفتك، اجلس في بيتك وسيصلك راتبك نهاية كلّ شهر، سأوصله لك بنفسي”، نظر الموظف الشريف إليه نظرة يصعب تفسيرها، وقال له: “سأتصرّف”، في مشهد آخر شاهدنا الرجل النّظيف يُقدّم طلب نقل له من تلك النّقطة..

قلت للشيخ لماذا التفاحة الفاسدة تُفسد صندوقا من التفاح، والتفّاحة السليمة لا تُصلح الفاسدة؟!

واستيقظتُ فجأة وفي فمي طعم تفاحة فاسدة.

aaalnaem@gmail.com