بهاء الحياة
جمان بركات
سمعت بخبر أنها تحمل في أحشائها أول مضغة من روح، بمعنى سيمكث هذا الجنين في رحمها لمدة تسعة أشهر، سعادتها لا يمكن وصفها فهي ستصبح أماً، سترسم الأيام لمولودها الأول باللون الوردي، تقول له لا أريدك أن تحزن أو تبكي فأنت ستكون منارة أيامي وأحلى أحلامي، إلا أنها لم تدرك في الوقت ذاته ذلك العذاب والوجع والتغيير الذي حل بها منذ أول لحظة بدأ هذا الكائن بالتكون، ففي أشهرها الأولى لم تستطع ممارسة حياتها الطبيعية، لم تكن قادرة على الأكل والشرب حتى أكلاتها المفضلة كرهتها ولم تتقبلها ومنعتها، ومما زاد الطين بلة أنها منعت منعاً باتاً حتى رائحة القهوة في المنزل وكانت بمثابة عدو حقيقي لها ولجنينها، كما لم تدرك أن حياتها ستنقلب وأنها ستخرج من دائرة الراحة السابقة إلى دائرة المسؤولية الكبيرة.
في الحقيقة، الأمومة ليست وظيفة يمكن تركها لأنها لا تعجب الأم، أو علاقة مؤلمة يسهل التخلي عنها، أو صداقة ترهق صاحبها، والبدء من جديد كان أسهل قرار حتى تصبح المرأة أماً، مهما كان الألم أو التعب أو الإرهاق أو الغضب أو الثورة، لا مفر منه، لا يمكن دخول الغرفة وإغلاق الباب خلفها، ولا يمكن ترك طفلها يبكي ويتشبث بأمه وتدخل صومعتها المهجورة. ومن الطبيعي أن يكون هناك تغييرات، ومن الطبيعي أيضاً التعاطف مع هذه الأم الجديدة، فالأمومة هي حلم كل امرأة وهي الإنجاز الأهم الذي قد تحققه في حياتها وهي الرسالة الأعظم التي تؤديها، إلا أن ما انتابني من شعور غريب في هذه الأيام والأشهر هي تلك المرأة العظيمة التي حملتني في أحشائها وتحملت الكثير من الأعباء والتعب لكي أكون “أنا”، أدركت وقتها أنها هي ذاتها التي تعمل دون مقابل لنبقى سعداء، وتعمل ليلاً ونهاراً تسهر على راحتنا إنها ملاكنا الحارس، هي التي تعلن عن بداية نهار جديد مليء بالحب والحنان وهي الكلمة الأولى التي ينطقها اللسان بالسؤال عنها لحظة الوصول إلى المنزل، هي تلك المرأة الجميلة التي اعتادت استقبالنا بحضنها الدافئ، وهي التي استطاعت المواءمة بين حياتها المهنية والعائلية، فالحياة تحتاج منها الصبر والإقدام، ولكن بين طيات كفاحها قامت بعدة أدوار في وقت واحد، تحدت الصعاب وبذلت الكثير والكثير، كانت معلمة وأم في حياتها المهنية وبالتأكيد تعجز الكلمات والسطور عن نقل صورة حقيقية عن نضالها اليومي، وفي ذات الوقت خوفها وقلقها الدائم على صحة أولادها جعلت أمومتها بكل مشاعرها وإحساسها أن تكشف قدرات خفية عندها فتارة تكون الطبيبة المداوية وتارة أخرى الصيدلانية التي تعطي الأدوية المناسبة.
لا تستطيع أمي الاستقالة من وظيفتها بخلاف كل الوظائف في العالم، فهي تعني العالم والحياة لها، حتى ولو كلفتها شقاء وتعباً وتضحية وليال من دون نوم، تبقى هذه الوظيفة الأحب على قلبها، وفي الحقيقة لا يقاس حب الأم بأي حب آخر على هذه الأرض فإذا تطلّب منها الأمر ذلك تضحّي بحياتها وبكل ما لديها من أجل أولادها، حتى لو لم يبادلوها الحب والاحترام اللذين تستحقهما فهي بغريزتها وفطرتها تعطي من دون مقابل.