فلا نزل القطر (2)
د. نضال الصالح
بين ناهد القصيدة وناهد الواقع ألف مُشتَرك إنْ شئتُ أن أعدّد، فلم تكد تكمل عبارتها: “أنا اسمي ناهد أيضاً، كأنّ قصيدتك عنّي أنا”، حتى استعدت، في لحظة خاطفة، رعشَ أصابعي، بل روحي، على بياض الورق وأنا أكتب القصيدة، بل وأنا أرسم ملامح الأنثى التوق، الأشبه بمستحيل، أو تكاد. الأنثى التي تختزل نساء الخليقة كلّها، منذ كانت الخليقة إلى أبدها، والتي يمنحني فجر عينيها، كلّما استضأتُ بهما، ما يعينني على احتمال هذا العالَم المثخَن بالزيف، والرياء، والنفاق، والخيانات، والطعنات، وقتل الآخر المختلف، وحرير أصابعها ما يذيبني شغفاً وتوقاً إلى الشجرة التي حرّمَ الله على آدم وحوّاء، وترتيلها باسمي ما يعصف بروحي حتى أتجلّى بشراً سوياً. الأنثى الفيء والضوء، العقل والوعي، النسمة والريح، الفراشة والمهرة، التي تستجمع النقيضين، عذوبة الينابيع وبأس الصخر، الأشفّ من حبّة ندى والأصلب من حبّة ماس.
بينهما، ناهد القصيدة وناهد الواقع، ألف مُشترَك ومختلف واحد هو لون بشرتها المترفة بالبياض، بينما لون الحنطة في مطلق غوايته، بل غواياته، لناهد القصيدة التي رسمتُ، بالكلمات، بعض مفردات جنائنها المشتهاة، ولذلك قلتُ: “أجل، أنت هي ولكن ليست هي أنت”، فتضرّج خدّاها بمزيد من الحمرة الشفيفة فيهما، وأسرعت إلى السؤال: “تقصد الشكل؟”، قلت: “أعنيه بالتأكيد، فلا معرفة لديّ بالحرف الأول من أبجدية المضمون”. ولم أكد أكمل، حتى قالت: “أدعوك إذن إلى فنجان قهوة، فتتهجى أوّل حرف إن شئت”.
على غير عادتي لم أتردّد في قبول الدعوة، وحرصت على أن أسمع أكثر ممّا أتكلّم، ثمّ تتابعت سُبّحة القهوة يوماً بعد آخر، بل يوماً بعد يوم، حتى ذلك اليوم الذي قلت فيه لناهد: “أحبّكِ”، فاستقبلت الكلمة كما تتنزل غيمة على أرض شقّقها الجدب، حسب ما حكت لي فيما بعد، وقالت وثمّة على شفتيها يرفرف عصفور ابتسامة باذخة الغواية: “أمّا هو فلا أحبّه”، وكانت تقصد شاعري الأثير أبا فراس الحمداني لقوله: “إذا متُّ ظمآناً فلا نزلَ القطْر”، الشاعر والأمير والفارس الذي عناه الصاحب بن عبّاد بقوله: “بُدئ الشعر بملك وخُتم بملك”، الأول امرؤ القيس والثاني أبو فراس. أمّا أنا فأحبّه، لا لأنّه ابن مدينتي حلب فحسب، حلب المنذورة، منذ فجر التاريخ، لجنون الغزاة والطامعين، وللطعنات ممّن بقي فيها من فلول الإنكشارية، وممّن آوتهم من اللائذين بحضنها فلم يحفظوا الخبز والملح، بل، أيضاً، لأنّ سيرة الحمداني تختزل، أو تكاد، سيرة الصراع الأبدي بين القيم المتضادة، الغدر والوفاء، والشاعر والشويعر، والأمانة والخيانة، والحبّ والكراهية، وسوى ذلك ممّا ذكر الحمداني نفسه في غير قصيدة من شعره الحافل بغير صورة لأبدية الصراع.
حلب، تلك هي الأصل في حكايتي مع ناهد التي لم يكد المسلّحون يقضمون بعض أحيائها، حتى اختارت ناهد النجاة بنفسها، وحتى غادرتني ذلك الصباح منذ نحو ثماني سنوات، وهي تقول: “نعم، أنا ناهد، ويمكنك أن تنساني، الوداع”.
وحيداً كنت أستعيد قول الحمداني: “بمَن يثقُ الإنسانُ فيما ينوبُه/ ومن أين للحرّ الكريم صِحابُ؟”، ولم أكن أعني نفسي وحدها، بل حلب التي….. (يتبع).