أمريكا تصطدم بالجدار السوري
سمر سامي السمارة
مع استعادة الحكومة السورية لمعظم الأراضي التي كانت تخضع لسيطرة المسلحين، تحولت الحرب من مسار “سياسي”، كما تصورها الساسة الغربيون، ووسائل الإعلام، وصناع القرار السياسي، إلى تواجد عسكري في الميدان بعدما أثبتت الولايات المتحدة فشلها بإدارة الحرب بالوكالة على سورية.
وبالرغم من الهزيمة الواضحة لمحور الإرهاب، يؤكد سجل تاريخ الولايات المتحدة المعاصر أنها ستفعل كل ما بوسعها لتكمل تواطؤها في نهاية الحرب، وتعرقل جهود إعادة الإعمار التي تشتد الحاجة إليها.
ويلخص مقال “الفورن بولسي” النوايا الأمريكية الحالية في سورية، ويشير المقال الذي كتبه “جوليان بارنس داسي”، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، ويموله حلف الناتو- سوروس، إلى ضرورة تأجيل النهاية الحتمية للحرب في سورية، وإبقاء معونات إعادة الإعمار رهينة تقديم تنازلات سياسية للمسلحين المهزومين عسكرياً، والمدعومين من الخارج الذين تم طردهم من معظم الأراضي السورية نتيجة الجهود المشتركة بين سورية والقوى الحليفة.
يقدم المقال حجة واهية بأن إبقاء ادلب كمعقل للمتشددين، وإطالة أمد الحرب، واحتجاز مساعدات إعادة الإعمار، سيكون مفيداً لحياة المدنيين اليومية، على الرغم من أن كل الأدلة تشير إلى خلاف ذلك.
وتبدو المطالب التي تم اتخاذها لإضفاء طابع “اللامركزية” في السلطة السياسية في جميع أنحاء سورية، نسخة مخففة وسيئة التصور لخطط البلقنة الأمريكية التي بدأ تطبيقها عام 2012 عندما كان التغيير السريع للنظام غير ممكن.
والملفت للانتباه إصرار واشنطن على دفع سورية من أجل تقديم تنازلات للعدو المهزوم الذي تم تمويله وتسليحه من الخارج، وعزمها على تحويل سورية إلى ليبيا أخرى بعد عدوان حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة عليها، لتصبح دولة فاشلة ممزقة اجتاحتها جماعات متطرفة غير مؤهلة وغير قادرة على إدارة دولة قومية موحدة.
لقد أقامت الولايات المتحدة سياستها الخارجية منذ ما يزيد عن نصف قرن على المثل القديم بأن “القوة تصنع الحق”، واليوم تطالب الولايات المتحدة- التي لم تعد الأقوى- بتقديم تنازلات على الرغم من أنها لا تملك نفوذاً لإجبار أي شخص لتقديم مثل هذه التنازلات.
وفيما تصور الولايات المتحدة نفسها زعيماً لـ “العالم الحر”، وتعين نفسها حارساً “للنظام الدولي القائم على القانون”، فإن مثل هذه الخطابات الطنانة هي مجرد ذر للرماد في العيون لحجب ما هو خلاف ذلك.
وبحلول نهاية الحرب الباردة، رأت الولايات المتحدة الفرصة سانحة لتعزيز هذا النظام العالمي “القوة تصنع الحق” من خلال نهب الاتحاد السوفييتي المنهار، وتصفية دوله القديمة من شمال أفريقيا، عبر الشرق الأوسط، وفي جميع أنحاء أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى.
وقد تجلى شعار الولايات المتحدة “القوة تصنع الحق” أثناء غزو العراق عام 2003، فقد ارتكزت حربها بشكل كامل على مزاعم ملفقة عمداً للإيحاء للرأي العام العالمي بأنها ليست حرباً استعمارية، كانت تلك الحرب حجر الزاوية لمشروع أكبر لإعادة تنظيم مناطق نفوذ الحرب الباردة، وحصرها تحت إدارة وول ستريت وواشنطن.
ولا تقتصر إمكانات الولايات المتحدة على الوسائل العسكرية والاقتصادية لإجبار الدول على تقديم التنازل لتحقيق مصالحها، بل احتكرت الإعلام العالمي والمفاهيم العامة لإقناع العالم بأنها تفعل ذلك في سبيل قضية أنبل وأسمى.
ومع تسارع التغير التكنولوجي المتعلق بمجال المعلومات، والصناعة والدفاع، بدأت الفوارق بين القوة العالمية العظمى الوحيدة وحتى الدول النامية بالتقلص، ناهيك عن التعادل المتزايد بين روسيا والصين إزاء الولايات المتحدة وأوروبا.
لكن محاولات واشنطن لتكرار التجربة الليبية في سورية اصطدمت بجدار من “الطوب” السياسي والعسكري، مع وقوف الحليف الروسي عام 2015 بجانب الدولة السورية، كما تعرّضت الولايات المتحدة أيضاً لنكسات خطيرة في أوكرانيا في عامي 2013 و 2014 عندما أعادت روسيا ضم شبه جزيرة القرم، وأفسد الانفصاليون في شرق أوكرانيا انقلاباً مدعوماً من الولايات المتحدة كان يهدف إلى تحويل البلد كله إلى وكيل للولايات المتحدة لا يقوم بالأعمال العدائية لموسكو فحسب، بل يقبع على حدود روسيا.
وفي هذا النظام الدولي الذي يرتكز على أن “القوة تصنع الحق”، تجد واشنطن نفسها لم تعد الأقوى، فبدلاً من إعادة النظر في أولوياتها، وإصلاح سياستها الخارجية، تضاعف الولايات المتحدة من التزامها نحو الأولوية الإقليمية والعالمية، وخلال العملية التطورية، لم تعد القوى الاقتصادية والسياسية التي سيطرت على أمريكا وموارد الأمريكيين قادرة على إعادة توجيه مسار السياسة الخارجية الأمريكية أكثر من شجرة يمكن أن تعيد توجيه نموها نحو الشمس، ومع ذلك، فإن القوى الخارجية، والنظام العالمي متعدد الأقطاب الآخذ بالظهور، يتحليان بالكثير من القدرة على تشذيب هذه الامبراطورية التي تكسوها الأعشاب، وربما إعادة توجيه نموها على شكل أكثر ملاءمة نحو تحقيق الاستقرار العالمي.
وفي سورية، تم تقليم فرع كبير تابع للامبريالية الأمريكية، وسوف يُنظر إلى الانسحاب الأمريكي من العراق أو سورية أو أفغانستان بوصفه علامة على الضعف، ويبدو ذلك أكثر وضوحاً للعالم، وبالتالي فإن العناد على المدى البعيد، والتمسك بالاحتلال في حد ذاته، علامة على تنامي العجز الأمريكي، ما يعني أن السياسة الخارجية الحالية للولايات المتحدة لا تحقق نتائج إيجابية لا للأشخاص الذين يوجهونها ويستفيدون منها في الوقت الحالي، ولا لأولئك الخاضعين لها.
في الواقع، تتورط الولايات المتحدة في سورية، وفي أماكن أخرى، والمهمة التي تضطلع بها اليوم واشنطن وول ستريت بشكل أكبر هي إدارة الأفول الأمريكي، والاستمرار بمحاولاتها اليائسة لتعزيز النفوذ الأمريكي من خلال الحروب المدمرة، والحروب التي تخوضها بالوكالة.
لم تبن روما في يوم واحد، ولم يتم تفكيكها في يوم واحد، ولكن تم تفكيكها في نهاية المطاف، ومن غير الواقعي عندئذ الاعتقاد بخلاف ذلك فيما يتعلق بالهيمنة الأمريكية الحديثة.