أمي.. هواء الجليل
حدثني الفنان التشكيلي الفلسطيني الراحل محمد الوهيبي ذات يوم عن أمه مريم السيار وهي جدتي أم أمي ثنية الوهيبي.. رحمهم الله جميعا، حدثني ساعة خروج أهله من فلسطين باتجاه الجولان نتيجة الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وفي آخر مشوار مسيرهم الطويل نحو الشمال الشرقي من بحيرة طبريا، وبداية وصولهم أول مرتفعات الجولان، هناك وقفت جدتي أعلى الرابية تدير وجهها إلى الوراء تفتح “زيج ثوبها الطويل” –الزيج هي فتحة الثوب من جهة العنق والصدر– تعبّ جدتي من الهواء القادم من سهول بيسان ومرج بني عامر وجبال صفد الغامقة وراء البحيرة، إلى رؤوس الأشجار العالية في الوديان وحول الغدران.. جدتي التي تفتحت عيناها على تلك البلاد، كانت في تلك اللحظات تغمض قلبها على ما ترى وتتنفس وتملأ “عبّ” ثوبها من ذاك الهواء المخضب.. تسترجعه حين يهب الحنين بها في مخيمات اللجوء التي آوتها وأبناؤها وأحفادها فيما بعد.
بالطبع هذا الهواء الذي أورثتنا، مخلوق يعيش مثل نبات مختلف ينمو ويكبر ويورث ويلد هواء مثله, يتكاثر، يسكن زوايا البيت ويترك ذكريات، لكنه لا ينام هذا الهواء ولا يصاب بعدوى النعاس، كنت أتخيله يسكن في ثوب أمي ولربما شعرها ورائحتها الخضراء التي أحب.. كنت علوقاً بتلك الرائحة، وكم دفنت أنفي في صدرها وهي تحدثني وإخوتي عن تلك البلاد لأجعل من الحلم كاملا في عناصره.. أمي مثل جدتي أورثتني أسطورة جميلة اسمها الأرض الأنثى إنها البلاد، وهذه البلاد الرائحة والكلمة واللون والدم والدمع والفرح، وكل شيء حتى النهايات.. إنها أنثى.. نعم أنثى هي أم وجدة وزوجة وأخت وصديقة ورفيقة وشجرة نمّر بفيئها وننسى أن نرمي عليها السلام.. عليك السلام أمي..الأرض والحبيبة.. عليك السلام هواء الجليل المصفّى.. وعلى البلاد والشهداء السلام.
أكسم طلاع