الفردانية والخطاب السياسي
إعداد: علاء العطار
ذاك الصباح وعقب نجاته من محاولة اغتيال، دخل ماركوس توليوس شيشرو السيناتوس [مجلس الشيوخ الروماني] بحماية حراس مسلحين، حدث ذلك يوم 7 تشرين الثاني عام 63 قبل الميلاد، وحينها كان يحوم خطر نشوب ثورة في أجواء الجمهورية الرومانية، وداخل المجلس كان الأرستقراطي لوسيوس سيرجيوس كاتيلينا يقف قبالته، وهو من حاك مكيدة الاغتيال، وفي مواجهة الرجل الذي حاول قتله، ألقى شيشرو أحد أقوى الخطابات في جميع العصور القديمة: “يالهذا الزمان! يا لأساليب البشر”.
كان يرتكز خطاب شيشرو على استعارة استفزازية: وهي أن الجمهورية جسد واحد، وكاتيلينا طاعون ينهشها، وبناء على هذا التشبيه وصف علاجاً لهذا الداء، وهو نفي كاتيلينا.
تعد هذه الاستعارة أحد العناصر الأولية في الخطاب السياسي فقد ارتكزت على الفلسفة السياسية لأرسطو وأفلاطون، وتتردد أصداؤها في رواية المؤرخ ثوسيديديس عن الحرب البيلوبونيسية، وتعيد إحياء أساليب الخطابة التي اعتمدها الساسة الرومانيون والرواقيون، وظهر في الأجيال التالية من الساسة والفلاسفة، أمثال توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو وغيرهم كثيرون، جميعهم استخدم الاستعارة لإثراء مجموعة متنوعة من الحجج التي تتناول موضوع المجتمعات الإنسانية.
وفكرة الكيانات السياسية باعتبارها أجسادا مجازية ليست حكراً على التجمعات الإنسانية، فكثيرا ما استحضر فلاسفة الإغريق ومؤرخوه صورة الدولة كـ “سفينة”، وهي صورة تدل ضمنياً على المخاطر المحدقة بالسفينة، ووجهتها، والأقدار المتشابكة لطاقمها ومن على متنها من مسافرين، ومن مصلحة جميع راكبيها أن يتعاونوا فيما بينهم، رغم أن رابط الدم لا يجمعهم، بيد أن مفهوم الوطن يتجاوز ذلك كثيراً، فيضم تحت جناحيه المواطنين على اعتبار أنهم إخوة مجازيون لديهم التزام بنيوي مشترك نحو الدولة، لكن استعارة الجسد السياسي تقترح شيئاً جوهرياً، الآخرون ليسوا أقرباءك أنت، بل هم أنت.
واستعارات صحة الجسد السياسي وسقمه أسست لتراث فلسفي يحلل الكيانات السياسية بطريقة منهجية، ولمن يهمه أن يفهم السياسة اليوم، بأمراضها وأعراضها وعلاجاتها الممكنة، تشكل هذه التحقيقات مورداً حيوياً ولكنه مورد مُهْمَلٌ بشكل كبير، وأحد المواضيع الأساسية المتكررة هو تعذر استدامة الفردانية الراديكالية، فالبشر في الأساس كائنات سياسية، كما أن استعارة الجسد السياسي هي أداة مفاهيمية مثالية لإدراك أن صحتنا تعتمد على ازدهارِ مجموعٍ أوسع.
أكد المنظّرون السياسيون في العصور القديمة على أولوية الجماعة عموماً، حيث زعم أرسطو أن الإنسان الذي ينفرد ولا يجتمع بأمثاله هو أكثر أو أقل من إنسان، بمعنى آخر إنما هو “بهيمة أو إله”، واستناداً إلى هذه الرؤية، يستمد الأفراد معنى من المشاركة في الكل السياسي، وفي أوائل العصر الحديث، قام فلاسفة أمثال هوبز ولوك بعكس هذه الفكرة، مجادلين بأن الحكومات وجدت للحفاظ على ممتلكات وأمان الأفراد، والكل يستمد معناه من أجزائه.
وفي يومنا هذا، تهدد الفردانية الراديكالية والشوفينية السياسية المتنامية بحجب ممارسة الجدل المنطقي حول المسائل الحيوية المتعلقة بالحرية والمجتمع، وتتشارك الفلسفات السياسية بين اليمين واليسار الاعتقاد بوجود قوى طوباوية للفرد المنعتق، لكن هذا التشديد المفرط على الفرد طمس الأسئلة المركزية التي تقبع في قلب الجسد السياسي المجازي: ما هو الغرض من التجمعات السياسية؟ وكيف تحدُّ هذه الكيانات المجازية من ازدهار الأفراد وكيف تتيح هذا الازدهار؟
تطمح الفردانية الراديكالية لصبغ العالم كله باللون الأرجواني، ومن هذا المنظور الضيق، الفرد الذي ليس لديه أبناء في سن الدراسة أو الذي يتقاضى معاشاً تقاعدياً سخياً ليس لديه سبب يدعوه لدعم التعليم العام أو لدفع استحقاقات الضمان الاجتماعي للمسنين، لذا الرفاه الاجتماعي في أساسه يقتضي وضع مفاهيم عن الجسد السياسي ودفاعاً عنه.
ويقر أرسطو بأن البشر تجمعوا في هيئات سياسية كوسيلة للحفاظ على بقائهم، لكنه لم يعتقد أن ذلك يمثل بالكامل هدف قيام الدولة المدنية، ولا تقوم الدولة بتوفير حياة آمنة وحسب، بل تجعلها غنية وذات مغزى، فالمتنزهات والأوركسترا والسمفونيات والمتاحف والمكتبات هي من نسل هذه الفكرة.
ورغم اعتقاد أرسطو أن موطن السعادة يجب أن يكون الفرد – فالكل لا يمكن أن يتمتع بالسعادة إلا إذا كان معظم الأفراد سعداء – لا يزال يُسند الأولوية للكل، فاليد لا تبقى يداً إذا ما فني الجسد الذي ارتبطت فيه من قبل، وهذا حال الفرد أيضاً في اعتماده على الجسد السياسي.
ربما لم يتفوق أي فيلسوف على هوبز في دفاعه عن أهمية المجموع، فقد سعى هوبز لفهم الطريقة التي يمكن فيها للأفراد الأحرار الذين تدفعهم المصلحة الشخصية تشكيل تجمعات مستقرة، وفي مواجهته للدمار الذي ألحقته الحروب الأهلية بانكلترا في كتابه “اللفياثان”، شخّص هوبز مرض الجسد السياسي بنفس طريقة تشخيص المرض البشري، وشبّه الحرب الأهلية بالصرع، وركز على طريقة تسبب هذه التشنجات في فقدان الكلمات لمعانيها النموذجية.
واليوم تنظر الفردانية الراديكالية لدور الحكومة من منظور ضيق للغاية، فهو يتمثل بحماية ممتلكات الفرد وسلامته فقط، ويتجلى ذلك في العبارة التي صاغها الرئيس الأمريكي رونالد ريغان: أكثر تسع كلمات إثارة للرعب في اللغة الإنجليزية هي: “أنا من هذه الحكومة وأنا موجود هنا لأكون عوناً”، إنها فلسفة راديكالية تقترح وجوب ألّا يكون للمجموع السياسي دور يتجاوز حماية الفرد، وفي حين أن الأمان وبعض الحماية للملكية الخاصة قد يكونان شرطين مسبقين للبقاء، إلا أنهما ليسا كافيين للرفاه الإنساني.
تواصل استعارة الجسد السياسي تشكيل الخطاب السياسي اليوم، خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا، فهل يتسبب المهاجرون حقاً بمرض في الجسد السياسي الأمريكي والأوروبي؟ أم أنهم عناصر أساسية لحياة جديدة في الكيانات السياسية في أوروبا والولايات المتحدة؟ اللغة التي تستخدمها الشبكات الإخبارية لتغطية حركات الاحتجاج والأمراض الوبائية تتماثل بشكل مدهش، تماماً كما اعتبرت اللاجئين الفارين من الحروب نحو ملاذ آمن مرضاً.
هذا الاستخدام الخطير للجسد السياسي قديم بقدم الاستعارة نفسها، فقد جاء في النص الهندي المقدس “ريج فيدا”، التضحية البشرية تخلق الكون والمجتمع:
“عندما قسّموا الإنسان، ما عدد الأجزاء التي قاموا بتفريقها؟ ماذا حلّ بفمه، ماذا عن ذراعيه، وماذا دعي كل من فخذيه وقدميه؟ أصبح فمه البراهمة [طبقة الكهنوت العليا عند الهندوس]، وأصبحت ذراعاه النبلاء، وأصبح فخذاه العامة، ومن قدميه ولد الخدم”.
عندما أصبح الخدم أقداماً وأصبح الانفصاليون كائنات مُمْرِضة، شعر العديد من المفكرين بشكوك عميقة في لغة الجسد السياسي، ومع ذلك، رؤيتنا للآخرين وأنفسنا كأجزاء من جسد مجازي أكبر تذكرنا بالحقيقة الفاصلة المتمثلة في اتكالنا المتبادل على بعضنا، والتأمل في معنى الجسد السياسي من العصور القديمة إلى اليوم يذكرنا بأن الفرد هو مكون من مكونات كائن سياسي جمعي، ولكي نتجنب أن نصبح تجمعاً من الأفراد الممزقين ومجموعات عائلية متناهية في الصغر، علينا أن نعود إلى المهمة الصعبة المتمثلة في التفاوض على الدفاع العام عن الجسد السياسي، وإنْ فشلنا في الوصول إلى رؤية جماعية للجسد السياسي اليوم، فسيكون مقدراً علينا أن ندفع ثمناً باهظًا لفردانيتنا، وربما يكون الثمن خسارة عالم نستحق فيه أن نكون أحراراً.
للأزمة السياسية الحالية عوامل عدة، بيد أن هناك ثلاثة متغيرات رئيسية هي المستويات العالية من عدم المساواة في الدخل، والانهيار الإيكولوجي الوشيك، وقطع التمويل عن التعليم العالي – لا سيما في العلوم الإنسانية، فقد تخلى التعليم العالي والسياسة عن الخطاب بشأن هذه المشاكل وتحول إلى إيديولوجية فردانية غير مقيدة.
فقط من خلال الالتزام بالخطاب الذي يستند إلى فطنة التاريخ والفلسفة للنظر بجدية في التوترات القائمة بين الحياة الفردية والجماعية، سنكون قادرين على معالجة الآفات الحقيقية التي تعاني منها الإنسانية، وبالعودة في الجدال إلى الجسد السياسي، فإن الهدف هو جعل الخطاب حياً، كما كتب جون ميل، وهو فيلسوف إنكليزي، في كتابه “عن الحرية”: مهما كان الرأي صحيحاً “إن لم يتم مناقشته بجسارة وبشكل كامل، فسيتم اعتباره عقيدة ميتة، وليس حقيقة حية”.