رأيسلايد الجريدةصحيفة البعث

خارطة جديدة للعلاقات الأمنية الإقليمية

 

الحق أن الحرب على الإرهاب في سورية لم تنته تماماً، ولكنها تمرّ اليوم في منعطفاتها النهائية؛ ورغم أن حصيلة ثماني سنوات من القتال ضد الإرهاب التكفيري، الأوسع من القاعدي، باتت محسومة من حيث أبعاد الانتصار وهوية المنتصر، إلا أن من الخطأ الاستكانة إلى احتمالية قبول الطرف المضاد بالهزيمة، وهو طرف يشتمل على طيف واسع من القوى والمجموعات والتنظيمات والمنظمات والدول التي اتخذت قرار الحرب، ودعمت الإرهاب، منذ البداية، على أنها تخوض في سورية – وبكامل معنى الكلمة – معركة تثبيت القطبية الأمريكية الأحادية في الشرق الأسط، كمعركة “تاريخية وفاصلة” يتعيّن في نهايتها طي صفحة الحرب الباردة، وتوسيع المظلة الأمنية الأطلسية إلى أجواء الشرق الأوسط، وتكريس الرجعيات العربية النفطية كمرجعية مالية واقتصادية إقليمية، بأيديولوجيتها الوهابية والإخوانية، و”إقرار” ما تعتبره “أمراً واقعاً” ينبغي إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي على تخومه، وذلك من خلال الاعتراف الرسمي بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية المحتلة عام 1967، بما في ذلك الجولان السوري، وعبر خلق بؤر وكيانات شبه انفصالية في مناطق عديدة، وفي إطار “صفقة قرن” متمادية وممتدة على عدة مراحل.

المشكلة كمنت بالضبط في حقيقة أن “معركة الحياة أو الموت”، هذه، جاءت متأخرة كثيراً، وفي الوقت الضائع، وفي ظروف تشهد تراجعاً تاريخياً للهيمنة الغربية في المنطقة، وتآكلاً في ثقل الوكلاء والأتباع، وانهيارات على مستوى التحالفات الداخلية، ولن نتحدّث عن كوابيس الشكوك والثقة المعدومة بما يمكن أن تحمله من عواصف مدمّرة وتشاؤمية. بالمقابل، لم يعرف تاريخ الشرق الأوسط الحديث مثل هذا “التواصل” – ولن نقول “المحور” لاعتبارات أدبية بحتة! – القائم حالياً بين سورية والعراق وإيران، بتفرّعاته اللبنانية والفلسطينية واليمنية، في أفق الدفاع عن استقلال وسيادة دول المنطقة والنضال ضد مشاريع الهيمنة، على قاعدة التحرّر السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبالاستناد إلى تيار شعبي عالمي آخذ بالتنامي، وبالتنسيق والدعم من محور دولي بات أكثر استعداداً لمناهضة محاولات التفرّد بالقرار الأممي، وروسيا والصين في المقدّمة منه. والحقيقة فإن الصراع في سورية بدأ كحرب في مواجهة الإرهاب القاعدي المدعوم أطلسياً وخليجياً وإخوانياً عثمانياً ليقلب المعادلة مع امتداد المواجهة وليتحوّل في الوقت الراهن إلى صراع على القرار العالمي والإقليمي يضع دور ووجود أطراف عديدة أمام أسئلة صعبة ومصيرية.

هكذا.. جاء الاجتماع الثلاثي لرؤساء أركان القوات السورية العراقية الإيرانية بدمشق قبل ثلاثة أيام، والرسالة التي تسلّمها الرئيس الأسد من بوتين خلال استقبال سيادته أول أمس لوزير الدفاع الروسي، ليضع المنطقة والعالم أمام الخارطة الجديدة للعلاقات الأمنية الإقليمية بعمقها وامتداداتها القارية، وليبدّد كل التوقّعات والتكهنات التي تحاول، بين فترة وأخرى، “الاجتهاد” على متانة وصلابة وقوة استمرارية التعاون والتنسيق عالي المستوى في الحرب على الإرهاب التكفيري، باعتبار هذا الإرهاب مجرد واجهة فعلية لمحور من الدول الداعمة التي تستخدمه أداة للضغط السياسي، وذريعة للحرب الاقتصادية، وترتبط من خلاله بالأجندات والمصالح الأمريكية وباستمرارية الاحتلال الإسرائيلي وبالصهيونية كحليف استراتيجي ضد قوى المقاومة والتحرّر.

تتبلوّر التحالفات الإقليمية والعالمية بسرعة لافتة تحت ضغط العدوانية الأمريكية المتنامية، والمشحونة بمقادير خطرة من الشعبوية والاستهتار والتطرّف، وكذلك في سياق الجهل والعمى الاستراتيجي الذي ينذر بأسوأ وأوخم العواقب. إن ارتباكاً أمريكياً مفضوحاً حيال الانسحاب أو البقاء في سورية، وتلك النزعة المغامرة في وضع أهداف أقل ما توصف به أنها ضرب من الجنون، على شاكلة إمكانية الفصل البري بين سورية والعراق وإيران، أو وقف التجارة عبر الحدود السورية مع لبنان أو الأردن، أو محاولات إقامة كانتونات انعزالية في الجزيرة السورية، أو غض النظر عن الأطماع الأردوغانية في الشمال السوري، أو اللعب على الصفة القانونية للجولان المحتل في التقارير والوثائق الدولية والأممية، لا تشي إلا بحقيقة واحدة، وهي أن رعونة الإدارة الأمريكية الحالية، بحلفائها الإقليميين الجهلة، تدفع إلى حافة المواجهة، وأن استباق التطوّرات الكارثية يبدو حتماً وضرورياً في ضوء التمادي غير المنضبط لأطراف لا تتسم بأدنى درجات المسؤولية.

في مثل هذه الظروف، يبدو الانتقال إلى المبادرة والهجومية الخيار الصائب، وربما الوحيد، في مواجهة تهور عدواني واستخفاف غير مسبوق نادراً ما عرفته الأدبيات السياسية، فالشرق الأوسط حافل اليوم بالمجانين والتدميريين بالغريزة.. والذين لا بد من وقفهم وإعادتهم إلى حجومهم الحقيقية!

بسام هاشم