ثقافةصحيفة البعث

صوت من الجوار

 

الصوت كان يأتي من الطابق العلوي، إنه وقع خطواتها على الأرضية الخشبية وهي تسير بتواتر رتيب و”مونوتون” يوحي بحالة من التعب وقلة الحيل أو بالأحرى بعمر ناهز السبعين. كان هذا الصوت يستيقظ معها باكرا كل يوم ويكشف عن العمل الذي تقوم به، صوت خطواتها وهي تنظف البيت يختلف عن الأصوات الصادرة من المطبخ وقت تحضير الطعام، وعندما يختفي الصوت أعلم أنها نائمة أو قد خرجت إلى مكان ما، وحين كانت تسافر لزيارة ابنها خارج البلاد كان الصمت يطبق على صدر الطابق كله وكأن الأصوات كلها توقفت أو سافرت معها على متن الطائرة. مواعيد الاستيقاظ وتحضير الطعام وتنظيف المنزل كل هذا خارج مدى الصوت. من الطابق الأرضي أيضا تصدر أصوات كثيرة وغير متجانسة مع بعضها، صوت باب الحديد يتألم عند إغلاقه بقسوة مع ضجة الأولاد وهم يركلون الوقت بكرتهم الصغيرة، وكانت تصدح موسيقى صاخبة من بيت الجارة الشابة التي تسكن وحدها مع رجل يكبرها بعشرين عاما ويدعى “زوجها”، إنها العلاقة التي لا حياة فيها لولا الرقص على تلك الأنغام المجنونة والسجائر التي لا تنطفئ، لعله انتقام من شباب لن يعود أبدا. خارج البناء الذي يسمى بناء الرمّان، كانت امرأة تقود قطيعا من الأغنام وتمر يوميا من فسحة خضراء قريبة لتترك قطيعها على راحته، لعله يمارس شيئاً من حريته المسلوبة قبل أن يساق إلى قدره قربانا أو وجبة دسمة لا فرق ولن يغير في الأمر شيئاً. كانت أصواتهم السعيدة تصل إلى الجوار، يلعبون ويمرحون على هواهم لكن ما إن ينتهي الأمر بصوت من قائدتهم تلك حتى يعودوا أدراجهم، الصوت يقطع كالسيف أحياناً، أما أصوات الباعة والباصات فهي تمر كلما سنحت الفرصة، ويلحق بها بعض المشترين والركاب كي لا تفلت منهم، أصوات مادية بحتة، أصوات الحاجات المتبادلة والمصالح المشتركة، هكذا هي الحياة أخذ وعطاء ولو أنها تميل أحيانا للأخذ فقط، لأن الموهوبين بالعطاء لا نلتقيهم إلا صدفة على بعض المسارح المغمورة.
بعد شهر تقريباً، عادت جارة الطابق العلوي من سفرها، لكن هذه المرة بلا أي أثر أو ضجة، لم أعد أسمع صوت أقدامها الذي اعتدت سماعه يومياً، كثرت الأصوات من بيتها وكلها لأقدام غريبة، وفيما بعد عرفت أنها ستبيع المنزل وتعود لتستقر عند ابنها خارج البلاد في مكان غريب وأصوات جديدة لم تألفها ولن، هناك حيث القانون يحكم الجميع لن يُسمح لأقدامها أن تطأ الأرض على مزاجها, ستدوس برؤوس أصابعها كي لا تقلق راحة جيرانها وإلا ستصل الشرطة بغضون دقائق فقط. لا أحد سيعرف عنها شيئاً، لا موعد استيقاظها ولا وقت تحضير الغداء أو تنظيف المنزل، سيضعونها في بيت صامت تماما بلا أي موجة أو تردد على عكس بيوتنا المليئة بالحياة والصخب. نحن نفقد أصواتنا كلما تقدمنا بالعمر، أصواتنا هويتنا الخاصة، جواز سفرنا للتعبير عمّا يجول في الداخل وحق من حقوق الحناجر التي قضت عمرها تصرخ مكتومة، لكن على ما يبدو نحن نفقدها أيضا كلما ألّمت مصيبة جديدة في البلاد.
ندى محمود القيم