ثقافةصحيفة البعث

إلى إبراهيم بركات جديد.. شريكي في الذاكرة والذكرى

 

وعدت أن أقرأ .. وهاأنا أفي بوعدي وأقرأ وأكتب، فالرواية الثانية للأديب إبراهيم بركات جديد, وثلاثة وثمانين عاما من اختبار الحياة بمرارها وسقمها واعتصار الحلو منها, في الحلم والكتابة، رواية تمنيت لو أني يومها عملت لها التقديم، ولو كنت حظيت بهذا الشرف كنت سأكتب لك: لأني أشبهك، لأنك تشبه أبي، لأني اعتبرتك يا هذا الرجل المفعم بالرجولة، اليوم أبي.
ولو كنت ولدت قبلا مثل عايدة، لاعتبرتك وجه حبيبي الضائع.
الآن أرتكب عملا صعبا لاختلاط المشاعر في داخلي، وعجينة قلبي بيدي بعد أن أغلقت الصفحة الأخيرة من روايتك (شجاعة امرأة)
إبراهيم بركات جديد، وهذه كلماتي إليك لعل لها بلسم الزمن الذي فصل بيننا، ويتسبب كل يوم في أذيتنا أشخاص وبشر نحبهم، فقط لجهلهم بالدرس الكبير في الحياة، الدرس الأخير، رسالة الموت، حتى لو كانت تضحية، لكنه نهاية.
في زمن صعب أيها الأديب كتبت بكل تلك الجرأة عن شغف العاطفة وتأوهات الجسد، ومزجتها بخليط روحك الوطنية الخلاقة المختزنة لذواكرها، وبعد وداع الحبيبة التي دفنها بطل روايتك حسين اسكندر بيديه، قرر أن يفتدي حبه ووطنه بأن نذر نفسه فداء تحرير فلسطين.
في الرواية التي تقع أحداثها الرئيسية بين عام 1966-1968 مجددا تبدأ الحياة من الريف بعاره ومشكلاته وظلم بناته، وانتصار الغني على الفقير، وإبراهيم جديد لم يوارب ثوريته ولا إيمانه بالاشتراكية، وتطرق في روايته على لسان بطله لعداء الامبريالية بمفهوم ذلك الشاب الوسيم المحارب أبو اسكندر الذي تزوج من ابنة خاله التي لم يحبها، حتى لا يكرر مأساة طفلة اجتاحت غريزة شاب غني عذريتها وتركتها نهب العار والقدر، فأبو اسكندر لم يتمكن من متابعة النفاق في زواج لم يتمكن من التعايش معه.
وفي حضن عايدة التي التقاها مصادفة في مكتب خدمات يعمل فيه، وتتبعها ولم يكن يتذكر اسمها، دليله إليها فقط رقم هاتف تركته له، بعد أن زارها واهتدى إلى حضنها عرف كل شهوات الحياة وطعومها التي نقلته من حيونة الجسد إلى إنسانيته، وبقي هكذا حتى قضت بطلة في تجربة مشتركة مع حبيبها المناضل الثوري الفطري حسين.
لم يتنكر الكاتب للغرائز، واستعرض سطوتها على البشر في بدائية ممارستهم لأنفسهم، وكان الصدق سمة التعبير البسيط عن الرغبات، وصولا إلى التقوى البشرية والتضحية الخالصة بعد الفقد العظيم، واعتزال المتعة التي كانت حاضرة بعمق وأبعاد إنسانية مرعبة حيث رفض المرأة الطفلة وامتثل إلى حزنه.
حسين اسكندر الذي حضر نكسة عام 1967 بتفاصيلها مقاتلا، وأهدته إضافة إلى نكستها, علامات حروق النابالم التي سرقت منه وجهه، ومن ثم انفعالات الغضب والتناقض والقبول والرفض والمونولوج الداخلي لحظة الخسران، كل الخواطر التي قد تنتاب الإنسان بين قرار الوجود والعدم وانتصار الروح الوطنية في نهاية الحوار الداخلي، ومعاقبة الذات لمجرد التشكك بشرعية المعركة.
ويظهر الأديب الاشتراكي الذهنية والعقيدة, واضحا ومباشرا في حوارات حسين مع الرقيب الذي يشرف عليه في القطعة العسكرية وقتها والذي يشرح له مفاهيم إدارة عالم رأس المال المهيمن. والحقيقة إن القدرة على وصف الانفعالات الداخلية التي برع فيها وهو يواكب شهوة بطل الرواية لم تقل حرفة عن وصفه لانفعالات جندي تحت الغارة في خندقه، وكل ما يساوره من أفكار وأوهام وما يواجه من وقائع، ذلك الزمن الطيب، وتلك الروح التي تتبدل أساليبها في نصوص اليوم منحتني متعة استثنائية في قراءة الرواية التي لم أتركها من يدي حتى انتهيت منها.
ولم يغادر الكاتب التقدمي مجتمعه وإفلاسه المجتمعي المظهرة في عيوب التقاليد وخصومة الأديان، فمن الصفحات الأولى بدأ عملية فضح تكالب التقاليد مع السلطات مع المال وعرج على نقد الأداء الوطني أثناء الحرب، ثم دخل المحظور خاصة في تلك الحقبة ليكشف عن العلاقة بين عايدة المسيحية والشاب المسلم حسين اسكندر، وبكل التفاصيل بدءا من إخفاء حسين لاسمه والاكتفاء بالقسم الذي يختفي منه حسين وتعلمه للصلوات، بل حتى إتقانه لها ومن ثم محاولات عائلته لإبعاده عن عايدة التي انغمس فيها تماما، وبكل الطرق التشكيكية والتي انتهت بفضحه أمام حبيبته وأنه ينتمي لدين آخر، وتداخلت المشاعر لدى الحبيبة ذات الأسبقية في زواج من مسلم وانتهى العتاب وحسم الأمر لصالح الحب، وبعد إصابة الحبيب في الحرب وصورتها في جيبه التي قادت ممرضة تعرف الحبيبة الأم عايدة لتخبرها عن شاب محروق يحمل صورتها في جيبه، وافتضح أمر علاقة عايدة لبني دينها مع الشاب الذي قدمته للجميع أنه خطيبها، والكل حتى هي كانوا يعتمدون في مسألة الثقة على اسمه اسكندر
تتدافع أحداث العشق والتضحية بكل وضوحها ويسرها في رواية إبراهيم بركات جديد وصولا إلى المآسي بعد التحاق عايدة بحبيبها الذي قرر الانتقام للهزيمة في عام 1967 وأصبح فدائيا ينتمي لتلك المرحلة المفعمة بوطنية خالصة كانت سمة واقعية لتلك الحقبة المتوقدة بالهمم الوطنية والعروبية، وعلى الفور انتهى التردد في كل شيء فقدم حسين اسكندر حبيبته بوصفها زوجته، وأصبحت جزءا من الخلية وتوجت نضالها بأن اقتيدت إلى الأسر، وهناك حيث التعذيب والتحقيق لم تعترف عايدة على زملائها, وصنع إبراهيم جديد من بطلة روايته أمثولة في الشجاعة والعطاء والإنسانية ودخل في العالي من الحلم الإنساني، وبعد الهروب من أسرها تعلو ذروة النهاية بلحظة الوفاة.. وفاة عايدة متأثرة بجراحها.
والعودة من عطاء التضحية وتسامي القدرة على المواجهة والدم النازف لأجل الأرض إلى أرض الواقع, فيبحث الرفاق عن من يصلي على جثمانها, فيرفض القس لأنها متزوجة بمسلم ولم تأخذ الغفارة ولا يسمحون لها أن تدفن بمدافن بني دينها، ويتصل بالشيخ ليدفنها في مدافن الإسلام فيسألونه من تكون؟ فيقول لهم: زوجتي. ولكن لا ورقة تثبت للزواج، وتتعقد المسألة ليبحث إبراهيم جديد لبطله المكلوم في حبيبته عن رب مؤنسن يستفتيه بعد أن رفض رجال الدين السماح لحبيبته أن تموت وترقد في سلام، فيختار أن يدفنها في بقعة من الأرض التي ضحت لأجلها ويشحذ همم الرفاق لما قدمته المرأة الشجاعة فيقيمون لها مأتمهم الخاص وترحل عايدة وتترك حبيبها، ذلك الكائن الذي صقل إنسانيته حبا كبيرا فيعود وحيدا، ويهجر أهل الدار الذين أحب منهم كبيرتهم ورحلت أم الجميع وما عاد يقدر أن يحب سواها، فيمنح نفسه لعطاء أكبر ويرحل ملتحقا بالعمل الفدائي لتحرير فلسطين.
للذين يتتبعون سطوري ويقاربون الواقع الذي نعيشه مع رواية إبراهيم جديد سيستعرضون شريط الحرب الأخيرة على الأقل، وقد يستغربون هذه الطوباوية المعطاءة في رواية إبراهيم جديد، لكن من يملك ذاكرته الحية سيتذكر مراحل النضال العقائدي, وسيعرف أن هذا واقع حقيقي عاشه شباب كثر في لحظات صادقة مع الوطن والانتماء، كانت فعليا جزءا من تاريخ تحركت عجلته ردا على الهزيمة ونشاطا للتحرير، ليس فقط كرد فعل غاضب على استهتار الأنظمة العربية وقتها وإنما على العالم الامبريالي الذي كان يتحكم بتلك الأنظمة ويقرر عنها ويفرض عليها حتى الهزيمة ويلزمها بها.
أخيرا وبكلمتين: إبراهيم جديد لم نلتق في الحياة حتى الآن، لكننا التقينا على صفحات وجدانك المطبوع في رواية والذي خاطبني على مدار الساعات التي عشتها بكل صدق مع حروفك وكلماتك، هذه ليست مجرد مادة أستعرض فيها روايتك، بل هذه رسالتي إليك التي تمنيت أن يحملها لك ساعي بريد مثل الذي ناولته عايدة إكرامية حين سلمها رسالة حسين.
ميس الكريدي