وجهة نظر
عبد الكريم النّاعم
دخل صديقي بوجهٍ ملامحه مليئة بما لا يريح، سلّم وجلس، وأردت فتح باب للحوار لكسر الجليد المنتصب في وجهه، فقلت له: “نصف الألف خمسميّة”، مابك؟!
قال: “أوهذا سؤال يُسأل؟! اسأل عن الذي لم أره بعد من منغّصات”.
قلت: “معك حقّ، الأمور ضيّقة على الغالبيّة.
قال: “وهذه لا تمرّ بسهولة، لم يعد الحلْق يتّسع للمرارات، والنفس مُشبعة بما فاض وطمّ”، وعدّل من جلسته وقال لي: “أسألك، كيف نستطيع إدارة الظهر لما تربّينا عليه خلال أكثر من نصف قرن، وأعني الاشتراكيّة تحديداً”؟!
قلت: “لمستَ نقطة حساسة، وأنا كم توقّفت عند هذه النقطة، وربّما وصلتُ إلى بعض الملامح، نحن يا صديقي حين طبّقنا بعض الإجراءات الاشتراكيّة، كنّا نترسّم خطى الاتحاد السوفييتي، وأحيانا الصين في مقاربات نظريّة، وحين سقطت التجربة السوفيتية وجدنا أنفسنا أمام معضلة حقيقيّة، وهنا ألجأ إلى ما يُسمّى “العدالة الاجتماعيّة”، وهذه العدالة قد تتحقّق بطرق مختلفة، وحسب معطيات كلّ بلد، بيد أنّي لا أكتمك أنّني وجدت نفسي أيضا شديد التمسّك بالقطاع العام، شريطة أن نحوّله إلى قطاع رابح، وبأن يكون التعليم مجاناً بجميع مراحله، وأن تتوفّر الطبابة للجميع، وأن لا يكون في البلد جائع، وقد تستغرب أنّي لم أجد غضاضة في أن يكون للرأسمال الوطنيّ الحرّ دور في مساحات محدّدة من التنمية، شريطة حسن المراقبة، لاسيّما وأنّ البورجوازيّة الوطنيّة، في عموم أقطارنا، لم يكن لها ذات الدور الذي لعبته بورجوازيّة أوروبا تاريخيّا، فقد ساهمت البورجوازيّة الأوروبيّة في النهوض الحقيقيّ بمجتمعاتها، بينما عندنا، تراموا على المشاريع ذات الربح السريع، والمنتجات التي لا تساهم في تطوير المجتمع إلاّ ما ندر، وحين ظهرت بعض البوادر، في مرحلة ما قبل الخراب الصهيوأعرابي، داهمنا ذلك الحريق، وكان أحد أغراضه ليس تدمير البلد فقط بشراً وحجراً، بل ومصادرة المستقبل، لبلد من بلدان العالم الثالث لم يكن عليه ديون للخارج، الآن وحيث نقف، لابدّ من إشراك الطاقات الفعّالة كلّها من أجل تقصير تأثير الزمن في إبقائنا على حالة الخراب، وهنا يأتي دور أصحاب الأموال من أبناء هذا الوطن، وفي طليعتهم التجّار”.
قاطعني منتفضا: “التّجار”؟!
قلت: بلى، التّجار، فالرأسمال الوطني حين يكون نزيها في تعامله، وحين لا نقصّر في مراقبته، ونرفع عنه الحيف، يستطيع أن يشكّل رافعة نوعيّة في البناء، وهذا الأمر كان شاغلي منذ فترة، وانشغالي الذهني به دفعني للرجوع إلى العهد الذي كتبه الإمام علي (ع) لعامله على مصر، الأشتر النّخعي، وهو عهد يمكن أن يشكّل دليل عمل في جوانبه الجوهريّة، لأنه تحدّث عن كلّ الشرائح الاجتماعيّة المعروفة، ومن جملتها التجّار، فجاء في عهده: “.. ثمّ استوصِ بالتجار، وذوي الصناعات، واوْصِ بهم خيرا، المُقيم فيهم والمُضطرب بماله، والمترفّق ببدنه، فإنّهم موادّ المنافع، وأسباب المَرافق، وجلاّبها من المَباعد والمَطارح، في برّك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمَواضعها، ولا يجترئون عليها، فإنّهم سلْم لا تُخاف بائقته، وصُلْح لا تُخشى غائلته، وتفقّد أمورهم بحضرتك، وفي حواشي بلادك، واعلم مع ذلك أنّ في كثير منهم ضيقا فاحشا، وشُحّا قبيحاً، واحتكارا للمنافع، وتحكّماً في البياعات، وذلك باب مَضرّة للعامّة، وعيب على الولاة، فامنعْ من الاحتكار فإنّ رسول الله (ص) مَنَع منه، ولْيكن البيع بيعا سمْحاً، بموازين عدل، وأسعار لا تُجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمَن قارفَ حُكْرة بعد نهْيك إيّاه فنكّل به، وعاقبه في غير إسراف”، ما قراتُه يا صديقي نبّهني إلى ما فعله الروس على يد بوتين في ذلك، وما اعتمدتْه الصين في تجاراتها، وأظنّ أنني قرأت أنّ كوبا تفكّر في شيء من هذا، وألفت انتباهك إلى ما وصف (الأكثريّة) منهم به.
aaalnaem@gmail.com