وعد “ترامب” .. ووعيد الجولان
لم يكتف الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” بالوعد مثل سابقيه، ولأنه “هبة الله لإنقاذ إسرائيل”، كما وصفه وزير خارجيته “مايك بومبيو”، قرر “بتغريدة” واحدة حسم تبعية الجولان السوري المحتل لـ”إسرائيل” ضارباً عرض الحائط بمبدأ “منع ضم أراضي الغير بالقوة”، وهو أحد الأسس القانونية المفصلية التي قام عليها النظام العالمي بعد الحرب الثانية، ومتجاوزاً كل قرارات “الجمعية العامة” المتواترة سنوياً حول عدم شرعية هذا الاحتلال، ومنهياً، بالتالي، عملية السلام المزعومة، وكل ذلك الجدل البيزنطي الذي رافقها وغرق فيه “البشر العاديون” في تفسير القرار الأممي “242” بين انسحاب “في” الجولان أو الانسحاب “من” الجولان، وهو تضارب نشأ بسبب لعبة بريطانية كانت خلف غياب “الـ” التعريف لكلمة “الأراضي” في النص الانكليزي للقرار، ووجودها في بقية اللغات المعتمدة في الأمم المتحدة للقرار ذاته.
وبعيداً عن حقيقة أن وصف “بومبيو” لرئيسه ينتمي إلى عالم ما قبل السياسة، بل قُل ما قبل التاريخ، حيث “السحر” والأساطير هي المهيمنة والموجّهة لأحوال العالم ومساراته المستقبلية، فإن المدقق، سواء في الوصف “البومبي” أو الفعل “الترامبي”، يعرف أنهما، معاً، ليسا إلا ستارين، أخلاقي وعملي، يخفيان خلفهما مصالح باردة لدول وامبراطوريات تديرها شركات وكارتلات اقتصادية ضخمة عابرة للهويات والجنسيات والأساطير، لكنها في الآن ذاته، وتلك مفارقة واضحة، تسعى جهدها لتؤسس أساطيرها الخاصة، ولو على أنقاض القانون الدولي وشرعة الأمم المتحدة ذاتها.
وإذا كان التفسير الأولي لخطوة “ترامب” الأخيرة يربطها بالحاجة الانتخابية الداخلية لكل من “نتنياهو” و”ترامب”، إلا أن الدلالات الخارجية لهذه الخطوة تبدو أهم وأبعد من ذلك بكثير، خاصة وأنها تتزامن مع مشروع قرار مماثل مطروح أمام الكونغرس الأمريكي لإقراره، ما يعني أن “المؤسسة” الحاكمة بجناحيها المدنيين الظاهرين، البيت الأبيض والكونغرس، تقف خلف هذه الخطوة، وهو ما يجعلها تندرج – على غرار انسحابات “ترامب” المتتالية من الاتفاقات الدولية العديدة – في سياق سياسي أوسع لخطة “الامبراطورية” في مواجهة استحقاق انتقال النظام العالمي من الأحادية القطبية إلى التعددية القطبية، وجوهرها إشاعة الفوضى في العالم كله، ومثالها التدخل الحالي في فنزويلا ولاحقاً الإكوادور، وبالتالي ترك الخصوم والحلفاء على حد سواء في حالة انشغال دائم بمشاكل متعددة ومتتالية لا تنتج سوى الفوضى وعدم الاستقرار في العالم كله.
بهذا المعنى، وبالنسبة لنا، فإن الخطر الأكبر يتمثّل في إمكانية أن تكون هذه “الخطيئة” مؤسسة لخطايا أخرى لاحقة، سواء من “ترامب” أو غيره، فقد يعمد السلطان العثماني مثلاً، مستغلاً هذه السابقة لإضفاء الشرعية على احتلاله جزء آخر من الأرض السورية، وقد يوسع “ترامب” ذاته من مجال “هباته”، فيقدّم جزءاً آخر من سورية لـ”إسرائيل” أخرى جديدة، وربما كان من اللافت في هذا الإطار أن يرفع فصيل سوري، بعد سابقة الجولان، من سقف شروطه ليجعل القبول المسبق بالواقع الذي أوجده، بحماية الطائرات الأمريكية، على الأرض، شرطاً لازماً وأساسياً للحوار مع دمشق..!!.
خلاصة القول، هي سابقة خطيرة على المستوى الإقليمي والعالمي، قد تؤسس لما بعدها إن لم تتم مواجهتها بالطريقة المناسبة، وليس هناك، بما يخصنا في سورية، من طريقة ناجعة لمواجهتها سوى إشعال الأرض تحت “الواهب” و”الموهوب”، ومقابل وعد “ترامب” ليكن وعيد الجولان الوحيد هو ما قاله أجدادنا سابقاً: السيف أصدق أنباء من الكتب.
أحمد حسن