أجنحةٌ من حُلم إلى المُستقبل
“هو الذي يفضي إلى المستقبل” تلك كانت نظرة سعد الله ونوس إلى المسرح، ولا يخفى على العارفين بالمسرح وأهله، وتحديداً بونوس، أن خياره الذي وقع على المسرح وسيلة من خلالها ينشر مشروعه الثقافي وأفكاره حول قضايا الناس الهامة وهمومهم، لم يكن عن عبث، بل كان اختياراً واعياً وخاضعاً للدرس، ذلك أن هذا النوع من الفنون هو الأكثر قدرة على إفساح المجال للحوار عبر شخوص النص المسرحي، وهو الأكثر قدرة أيضاً على تبادل الأفكار والآراء إذ كان المسرح في عرفه مساحة حرة و:”فسحة للتدرب على الإصغاء وتجاوز المونولج إلى حوار يتبادل فيه الناس الأفكار”. الأمر الذي يضع المجتمعات على سكة سليمة تسير بها إلى المستقبل المأمول.
وهو لم يكتف بهذه الفسحة التي أتاحت المجال لتبادل أفكاره ما بين شخوصه على الخشبة، بل لجأ إلى نقل العملية التبادلية إلى جمهور الصالة، عاملاً على أن ينتهي بهذا الفن إلى مسرحٍ للجماهير، ينتقل فيه الحوار ما بين المجموعة المسرحية، إلى حوار بينها وبين الجمهور، لقناعة منه أنه الوسيلة لتغيير العقلية السائدة لدى المتفرجين، والقادرة على تفعيل وعيهم الجماعي بقضاياهم وهمومهم تلك التي تناولها العمل على المسرح. على أنه انتهى فيما بعد إلى اعتقاد موازٍ منه بأن هذا التغيير وهذا الدور التنويري الذي يأمله من المسرح لن يكون فورياً ومباشراً بالضرورة، لهذا فهو انتقل به من كونه مركز تلقين للأفكار إلى وسيلة جريئة لإثارة التساؤلات، وبالتالي سبر أغوار الفرد والمجتمع، الأمر الذي بدا جلياً في رسالته التي كتبها ليوم المسرح العالمي في العام 1996 والتي عنونها بالجوع إلى الحوار إذ قال فيها: “هذا الحوار يبدأ من المسرح، ثم يتموج متسعاً ومتنامياً، حتى يشمل العالم على اختلاف شعوبه، وتنوع ثقافاته، وأنا أعتقد أن المسرح، ورغم كل الثورات التكنولوجية، سيظل ذلك المكان النموذجي، الذي يتأمل فيه الإنسان شرطه التاريخي والوجودي معاً. وميزة المسرح التي تجعله مكاناً لا يُضاهى، هي أن المتفرج يكسر فيه محارته، كي يتأمل الشرط الإنساني في سياق جماعي يوقظ انتماءه إلى الجماعة، ويعلّمه غنى الحوار وتعدد مستوياته. فهناك حوار يتم داخل العرض المسرحي، وهناك حوار مضمرٌ بين العرض والمتفرج. وهناك حوار ثالث بين المتفرجين أنفسهم، وفي مستوى أبعد، هناك حوار بين الاحتفال المسرحي “عرضاً وجمهوراً” وبين المدينة التي يتم فيها هذا الاحتفال. وفي كل مستوى من مستويات الحوار هذه، ننعتق من كآبة وحدتنا، ونزداد إحساساً ووعياً بجماعيتنا، ومن هنا، فإن المسرح ليس تجلياً من تجليات المجتمع المدني فحسب، بل هو شرط من شروط قيام هذا المجتمع، وضرورة من ضرورات نموه وازدهار”.
هو إيمان كاتب أعمال مسرحية بأهمية المسرح؛ تلاقيه في هذا الإيمان روح تحتفل بالحياة من خلال وقوفها على خشبة المسرح إذ تراه نضال الأشقر الممثلة والمخرجة المسرحية، مكاناً وفعلاً الأكثر قدرة على إحداث الأثر في المتفرج: “المسرح خبزٌ، هو بهذه الأهمية بل أكثر، يحمل قضايا الناس بفكر متجدد، المسرح مساحة نيرة قادرة على التجديد في اللغة وفي التعبير، يأخذ مشكلات مجتمعه ويطرحها سواء بضحكة أو بدمعة ليؤثر في الناس” والأهم من هذا أن ليس لأحد أن ينكر على أبي الفنون ألقه، ولا إمكانية لأي جهة من جهات الإبداع على أن يحل محله، إذ هو القادر على إعادة الإنسان إلى بهاء ونبل إنسانيته: “المكان الوحيد حيث يدخل الإنسان ويتأمل وجوده وحياته ومستقبله أمام فنانين أحياء يرزقون”.
هو حبل النجاة والعالم يغرق في متواليات من الظلام:
“تعال أيها المسرح أنقذني/غافٍ أنا.. أيقظني/ضائعٌ أنا في الظلمة، دُلّني على الأقل على شمعة واحدة/كسولٌ أنا… ما أخزاني/تعِبٌ أنا… أنهضني”
نداء أطلقته الفنانة المسرحية أريان منوشكين في احتفالية المسرح العالمي لعام 2005، يشرح رؤيتها للدور الذي يليق بنوع من الفنون له فرادته وتميزه.
هل تبتعد رسالة المسرح هذا العام كثيراً في الصورة والمضمون سوى أن كاتبها كارلوس سيلدران المخرج المسرحي والمعالج الدرامي وأستاذ المسرح في جامعة هافانا- كوبا استسلم لقدره في إتباع خطوات أساتذته والامتثال لتقليدهم المدهش في العيش الآن وفي الحاضر دون أمل سوى: “الوصول إلى تلك اللحظة الشفافة وغير القابلة للاستنساخ لحظة اللقاء مع الآخر في ظل المسرح، لا يحمينا إلا صدق إيماءة وكلمة تعبر عن الكثير” مسرح يمنحه سر الانتشار والتوغل دون الحاجة إلى الابتعاد عن المكان يحلق به بأجنحة من حلم، مسرح هو: “وطن منسوج من لحظات نتعرى فيها من كل أقنعتنا، من البلاغة، نتعرى ربما مما يمكن أن نكون ونحن نمسك بأيدي بعضنا البعض في الظلام” بل أكثر من هذا وذاك هو رحلة لا يمكن لأحد أن يعطيها حق قدرها أو يسكتها، أو يقيس حجمها الصحيح: “إنها رحلة في مخيلة شعبك، بذرة مغروسة في أبعد أرض موجودة: “الوعي المدني، الأخلاقي والإنساني للمتفرجين عليك”.
لعل أجمل ما في الفن عموماً والمسرح بشكل خاص هو تلك الفرادة والتميز وذلك الفرح الذي يشيعه، فرح الوضوح والمعرفة والاكتشاف، وتلك الفاعلية والقدرة على إحداث الأثر إذ هو فعل حياة لا فعل عيش، ما يجعله من بين الأنواع الفنية الحامل لصورة الغد، والمعبر الأول عن معاناة وشجون المجتمعات، يقولبها ويهندسها ويشذبها، ثم يقدمها في قالب من المتعة الفاعلة في حركة التقدم والتطور الإنساني.
بشرى الحكيم