زكاةُ القلب
عبد الكريم النّاعم
في جملة لإمام البيان والفكر عليّ (ع) يقول: “لكلّ شيء زكاة، وزكاة القلب الحُزْن”. توقّفت طويلا مع هذه الجملة، وتساءلتُ من أين يأتي هذا الحُزن لواحد كالإمام، وهو الواثق من دينه، والمتوكّل على ربّه بطريقة فائقة الاستقرار، والذي لا يهاب الموت الذي يخشاه كلّ النّاس، إلاّ قلّة، شملتْها ألطاف العناية الإلهيّة، ففي رواية تقول إنّ ابنَه الحسن “ع” قد نبّهه من خطر أنّه يسير، وهو الخليفة,بلا أيّة حراسة، فكان ممّا قاله له: “والله إنّ أباك لا يخشى أَوَقعَ على الموت، أم وقَعَ الموتُ عليه”؟!، وهو الذي استُشهد من أجل إقامة العدالة كما فهمها من محمّد(ص).
الكلام السّابق استدعى إلى الذّاكرة جملة تقول بُنيَ هذا العالمُ على الفاجع، وهذا الكلام ليس للتثبيط، وليس دعوة لأنْ نجعل الحُزن قِبْلة نتوجّه إليها، لأنّ في ذلك تعطيلا لشؤون الحياة الفرديّة والاجتماعيّة، وقد أبْحر في هذه الشواسع عدد من الصّوفيين، في تاريخنا، وفي تواريخ الأمم، وهو بحسب ظاهره قد يعطّل مبدأ استخلاف الإنسان الإلهيّ لعمار هذه الدار، “يا آدّمُ إنّا جَعَلْناكَ خليفة” -قرآن كريم-، ومَن يقرأ ما تركه الإمام (ع) من واجبات الصدق، والأمانة، والإخلاص لِما علينا أنْ نقوم به تجاه ذواتنا، وتجاه الآخر، مَن يقرأ قد تزداد دهشته لما بين تلك الأفكار. في هذا السياق ثمّة قول مفاده أنّ الذين تبدو عليهم علامات الضحك، والسرور، والابتهاج هم أكثر النّاس حزْناً في أعماقهم.
في الشعر بصورة خاصة ثمّة أمواج من الحزن، بعضه هادئ كالبحار العميقة، وبعضه متلاطم كهياج المحيطات الصّاخبة.
حين نستمع إلى الموسيقى الرّاقية، أو إلى صوت جميل يؤدّي بإحساس مرهَف، تتفتّح أزاهير من الحُزن البارّ في أعماقنا، والجوى، والتّوق إلى ما لا نعرف.
الذي أرجّحه، في مُقاربة تلك الجملة أنّ إحساس الإنسان بالارتحال، وبالفقْد، وبتوديع الأهل والأصحاب إلى حيث لا يرجعون إلينا، والنّظر في مراحل العمر، لاسيّما بعد أن تنقضي مرحلة الشباب، كلّ هذا يثير العميق من الأشجان.
أذكر مرّة أنّ صبيّة كانت في جلسة، وكانت بادية المرح، لا تكاد تتوقّف عن الضحك، والبهجة، وتثيرهما فيما حولها، قال لها أحد الموجودين بلهجة ودودة: “مَن ينظر إليك يقول أنّك لم يمرّ بك الحزن في كلّ حياتك، فهنيئا لك”، و..فجأة ظلّت ابتسامتها تملأ وجهها، وانهمرتْ عيناها بدمع غزير.
كم من الشعراء تضمنّت قصائدهم ما معناه من أين يأتي كلّ هذا الحزن؟!
إنّ مَن يقرأ جملة الإمام (ع)، ويربطها بما حضّ عليه من الجهاد، والتصدّي للظّلَمِة، والاهتمام بذوي الحاجات، وإقامة العدل، ربّما يُدرك أنّ إحاطتْه بشؤون الإنسان والمجتمعات، وما هي عليه من القسوة، والتفاوت، والإيثار، رغم اعترافه بقرارة نفسه، أيّاً كان موقعه، أنّه آيل إلى الموت، حين يُدرك هذا يُقبِل الحُزن.
لابدّ من التّذكير بأنّ ثمّة مدارس روحيّة أخرى، لاسيّما في الشرق الأقصى دعتْ إلى التّعامل مع الحياة على أنّها لعبة، وعلينا أن نستقبلها بالكثير من الفرح، والاحتفاء، وهي دعوة ربّما أخذ بها بعض الأفراد، أو الجماعات، ولكنْ من يستطيع أن يمنع القول فيها إنّها الوجه الآخر لتلك الزكاة التي أشار إليها الإمام؟!
لست يائسا، ولا قانطا، ولا أدعو للاستسلام، ولكنّي لا أُنكر أنّي واحد من هؤلاء الحزانى، وأنّني، من أشدّ الدّعاة لمقاومة كلّ ما يجرح كرامة الإنسان، ويقف عائقا في وجه تفتّح أزاهير الوعي، لاسيّما في مرحلة كمرحلتنا، والتي تحتاج إلى المخلصين، الغيارى، الصادقين، الذين يعتبرون أنّ كلّ خطوة يخطونها في سبيل البناء هي ذخيرة مدّخرة عند مَن لا تخفى عليه خافية، وفي موقف يُواجه فيه الإنسان كتابه: “ما لهذا الكِتابِ لا يُغادِرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها”؟!-قرآن كريم- فلْيَعتبرْ معتَبِر، وليعرفْ كيف يؤدّي زكاة قلبه.
aaalnaem@gmail.com