فلا نزل القطر (4)
د. نضال الصالح
استعاد يوسف، غير مرّة، ذلك البيت وحده من البائية المطلقة لأبي فراس، أي قوله: “وما إنْ شبْتُ مِن كِبَر ولكنْ/ رأيتُ من الأحبّة ما أشابا”، وكان كلّما بلغ لفظ “الأحبّة” حشرجتْ حنجرته بوجع فاحش، وبغير لعنة على معاجم اللغة، بل اللغات كلّها، التي لم تطلق اللفظ من قيده فيها، إلا قليلاً، ولو كانت أطلقته، كما كان يحدّث نفسه، ولو لم يبقَ محض حرفين صامتين، لما كان ما كان منذ قابيل وهابيل، وما كان من متواليات الدم، وما كان من أمر هذا الخراب كلّه الذي يفتك بالبشرية جميعاً، والذي فقدَ الكثير من بني الإنسان معه إنسانيتهم، وتحول إلى وحش ضار لا يعنيه سوى ما يعنيه نفسه مهما يكن من شأن سواه، بما في ذلك قتله بالحقيقة أو المجاز.
في الصباح مضيتُ إلى الكلية لأسلّم المشرف على رسالتي الفصل الذي أنجزته قبل يومين من ذلك اليوم الذي غادرتني ناهد فيه، ولم أكد أدخل الباب الرئيسي، حتى فوجئت بمجموعة من الطلاب والطالبات يسدّون الباب الداخلي للكلية، وهم يرددون غير شعار وراء واحد منهم، وبعض منهم يصوّر التظاهر بهاتفه الجوال، وفوجئت أكثر بأحد الأساتذة وهو يقف على الشرفة مشيراً إليهم بحركات من يديه لم أفهم معنى أيّ منها إلا عندما وصل عناصر من الشرطة لتفريق المتظاهرين، وفهمت أكثر عندما قرأت صفحته في أحد مواقع التواصل الاجتماعي، وآنذاك صدّقتُ ما كان أحد طلابه حكاه لي عنه، ولاسيما تحريضه الطلاب على التظاهر بعد أن كان يسمعهم ما تجود به شياطين عبقر من الشعر عليه، ثمّ استعدت بيت أبي فراس بعد أن أبدلت مفعول اسم الفاعل في أوّله: “أراجيةً كويلبةً ذِماماً / وراءكِ لا أمانَ ولا ذِمامُ”، ثمّ بعض ما يحفُّ بكلمة ذِمام من أضداد، خيانة وغشّ وخداع.
تلك هي المشكلة، أعني الذِمام، وأعني أكثر ألا يكون لدى أحد أيّ وازع يمنعه من أن يفعل ما فعله نيرون عندما أحرق روما زاعماً أنه يريد بناءها من جديد، وذلك هو الأستاذ الذي علمتُ، فيما بعد، أنه صفّق لما سُمّي “ثورة”، وحرّض على التظاهرات، وشارك في تنظيمها والإشراف عليها، لأنّه لم يُعيّن عميداً، وكان يؤمّل ذلك، وتلك هي ناهد أيضاً التي لم تكن تتردّد في استعادة لازمتها: “لا أحبّه”، أيّ الحمدانيّ لقوله: “إذا متُّ ظمآناً فلا نزلَ القطْرُ”، ثمّ، وعند أوّل إشارة لأيّام باهظة الوحشة، تناست نقيض القول، أي ما كان أبو المعرّي قال: “فلا نزلت عليّ ولا بأرضي/ سحائبُ ليس تنتظم البلادا”، وما كانت تصدح به، وتترنم، وأنا أحدّثها عن الحمدانيّ. أجل يا ناهد أخطأ الحمدانيّ في قوله، فما مِن شيء أقبح من أن يكون المرء أنانياً، ولا يعنيه ممّا حوله سوى ما يعنيه نفسه، ولكن أليس خيارك في الرحيل وحلب تنزف، بل تبدأ نزيفها، هو ما قاله الحمدانيّ؟ أجل أخطأ شاعري الأثير وأصاب المعريّ. ولأنني لا أومن بمقولته، ولأنني لم أكن أنانياً يوماً، وقبل ذلك لأنّها حلب، فسأختار البقاء فيها، بل سأبقى مزروعاً فيها كما شجرة تعاند فصول القحط واليباس واليباب، وستُهزم هذه الذئاب ذات يوم، لا بدّ ستُهزم، وسيبزغ فجر حلب كما يليق بها من الحياة. التوقيع: يوسف الـ…