في ذكرى التأسيس
أصبح من البديهيات أن عظمة الحركات السياسية والمبادئ العقائدية، إنما تقاس بقدرتها على تحقيق أمرين ساطعين..
الأول: تحقيق آمال الجماهير، وتطلعات الأجيال في نزوعها نحو الحرية، وبناء المجتمع المهاب والمعافى، وتعضيد الوطن الراسخ في وجه العواصف.
والثاني: كفاءتها في خلق البيئة المستقرة التي تضمن الكفاية والعدل ومواكبة العصر.
وعندما انبرت طلائع البعث الأولى من الحرس القديم والأساتذة الأوائل، كانت على ثقة واعية ودراية كاملة، من أن درب حزب البعث العربي الاشتراكي ليست معبّدة بالزهور، وإنما معمّدة بالدم والمصاعب والأهوال. ذلك لأن الحزب ولد من رحم معاناة هائلة وفي خضم ثلاثة كوابح ومثبطات تمثّلت الأولى في نكبة فلسطين عام 1948 بُعيد التأسيس العظيم للبعث (في 7/4/1947) في مقهى الروضة قرب البرلمان في مدينة دمشق، وقد تولى الاستعمار الغربي الذي كنسته بطولات رجال الثورة السورية الكبرى (1925) تحصين عملية ولادة الكيان الصهيوني في البدايات، ثم تولت فيما بعد الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية تحصين هذا الكيان وضمان العيش والاستمرار له في المنطقة بعدما تعهّدت تأمينه من رغيف الخبز حتى الصاروخ والطائرة … وكانت الثانية هي مواجهة الجدار الصلب الذي واجهه الحزب، والمتمثّل بالعقل السلفي والفكر الظلامي الذي يرفض أن يعيش إلّا في عباءة الماضي، بصرف النظر عن جمالية هذا العيش ومشروعيته، وملاءمته لروح العصر، ومعطياته المجتمعية والعلمية والحضارية، أما ثالثة الكوابح فهي الرجعية العربية التي تحصّنت بالقبيلة والعشيرة حيناً، وبالطائفية والإقليمية أحياناً، وقد وهبها النفط مكامن القوة وعناصر القدرة على البيع والشراء في أسواق السياسة والضمائر، إضافة إلى الأحلاف التي ضربت أطواقاً وموانع حول الأقطار العربية، والنخب التي حاولت التحصن في وجوه العواصف القادمة من جميع الجهات.
في هذه الأجواء الزاخرة بكل الآلام والمصاعب، حاولت مركبة البعث أن تشق طريق الأهوال، وتسهم في قيادة الجماهير لأعظم وأنبل حدث في القرن العشرين، بل في تاريخ العرب، وهو إقامة الوحدة بين سورية ومصر، بقيادة الخالد جمال عبد الناصر 1958، ويوم انتكست الوحدة لأسباب ليس الآن مجال الحديث عنها، لملم البعث أجنحته التي كادت تتكسر يوم قررت قيادة الحزب حل التنظيم في القطر العربي السوري، تضحية وتكرمة لعيون الوحدة، وزعيمها. فكانت ثورة الثامن من آذار 1963، التي حمل عبئها، وقاد مسيرتها كوكبة من الرفاق الضباط الذين كان معظمهم قد نقل خلال الوحدة إلى مصر، ليشكلوا مع رفاقهم في السلاح (الجيش الأول في أرض الكنانة).
وقد كان كلمة السر، ومفتاح الفعل، في التنظيم الذي صنع ثورة آذار الرفيق الخالد حافظ الأسد باني سورية الحديثة.
وقد واجه البعث (بعدما تحولت الثورة إلى إدارة وحكم، وتأسيس دولة تشرع، وتبني وتخطط لمستقبل على صورة العصر الطافح بالإبداعات والتطورات في شتى الميادين)، نماذج متعددة من النظريات المغرية بعلمانيتها حيناً، وطوباويتها أحياناً، الأمر الذي جعل سفينة الحزب تهتز فترة حتى أمسكت مراسيها الأرض التي منحتها الصلابة والتماسك والرسوخ.
وحتى يتم تضميد الجراح، وتنقية البعث مما تخلله من تسلل الأفكار التائه بين يمين (يسمى بالعفن) أو يسار (دعي بالطفولي)، كان لابد من إحداث الخرق التاريخي في (تثوير الثورة، وإعادة صياغة الحزب على أسس تعيد له أصالته، وتلاحمه مع جماهيره في الشارع الشعبي، فكان التصحيح المجيد الذي قاده الرئيس الخالد حافظ الأسد عام 1970، حيث اعتبره هذا الحدث تجديداً وتأصيلاً للبعث في إعادته إلى جماهيره، ومحيطة القومي، وشعاراته الوحدوية التي هي سبب وجوده واستمراره في الساحة العربية التي شهدت عشرات الأحزاب والحركات منذ تأسيس البعث حتى اليوم، وكلها تلاشت، وبقي البعث أنموذجاً في الثبات والصلابة والاستقرار في وعي الجماهير، وآمالها واحترامها.
وقد بنى التصحيح دولة مهابة الجانب راسخة الأهداف، تتعامل مع الكبار في العالم على المستوى والمرتفع ذاته، فأعدت جيشاً عقائدياً أبدع وتجاوز جميع الرهانات في إدهاش العالم في حرب تشرين /1973/ التي اعتبرت أعظم الإنجازات العربية العسكرية في القرن العشرين وفي الحرب الوطنية العظمى التي حشدت فيها أمريكا والصهيونية والرجعية النفطية جميع وحوش الإرهاب التكفيري الوهابي الرجعي من أكثر من مئة وثلاثين دولة.
وقبل أن تكتمل فرحة النصر على الإرهاب الذي كان في خدمة الصهيونية تحديداً، استولدت أمريكا جريمتين بحق شعبنا العربي والإنسانية جمعاء، الأولى: نقل سفارة العدو من تل أبيب إلى القدس، والثانية تجاوز جميع الأعراف والقوانين الدولية عبر قرار الرئيس الأمريكي شرعنة الاحتلال للجولان العربي السوري متجاهلاً كل منطق وقانون وقرارات أممية!!.
إن جيشنا العقائدي البطل، مسنوداً بشعب أسطوري الصمود، وقيادة صادرت إعجاب العالم بحكمتها، وشجاعتها في معارك السياسة والسلاح، واعتماداً على بطولات الأهل الأشاوس في الجولان العظيم، وتمسكهم حتى أخر حدود النبض بتراب الوطن، وبدعم وإسناد من محور المقاومة الباسلة لابد أن نجعل قرار ترامب عبئاً ثقيلاً على صاحبه، ومن يعش ير!!.
تحية الإجلال والإكبار للقائد المؤسس لسورية العربية الحديثة الخالد حافظ الأسد.
وتحية لجيشنا، جيش فلسطين، والجولان، ولكل أرض عربية تشكو الوجع القومي للحرية والكرامة.
وتحية على الدوام لرفاق البعث الذين شرّفهم القدر في الانتساب لأعظم، وأكرم تنظيم يستهدف وحدة الأمة العربية، وبعث رسالتها الحضارية والعروبية الخالدة.
د. صابر فلحوط