القابض على جمر العروبة
في ذكرى تأسيسه الثانية والسبعين، والأمة العربية تعيش ما تعيش من أوضاع بالغة التدهور، يرى البعض أن الاستمرار في الإيمان بأهداف حزب البعث العربي الاشتراكي أصبح ضرباً من العناد العقيم. وقد يبدو هذا الرأي، للوهلة الأولى، وجيهاً ومنسجماً مع واقع لم يبق فيه من تلك الأهداف إلا ذكراها، لكن التدقيق فيه بموضوعية وتأنٍ بعيداً عن النوايا السيئة والصيد في المياه العكرة يبيّن العكس تماماً. فحال الأمة الكارثي اليوم هو دليل على تعاظم الحاجة إلى أهداف البعث رغم الصعوبات الذاتية والموضوعية الجمة التي تعترض طريقها، ولنأخذ هدف الوحدة كمثال. هل ما تواجهه الدولة القطرية اليوم من خطر التقسيم يعني أن ذلك الهدف أصبح ينتمي إلى الماضي أم أن العكس هو الصحيح؟، ألا يصح القول إن تلك الدولة ستبقى مهددة في كيانها القطري ما لم تصبح عضواً في جسد قومي يوفر لها المناعة اللازمة لحماية استقلالها وسيادتها، كما يوفر لها إمكانيات النهوض التنموي الشامل؟. وفي الحديث عن الوحدة، ألا ينبغي أن نتذكر أن هذا الهدف قد حورب ويحارب بضراوة من قبل أعداء الأمة الخارجيين وأذنابهم في الداخل، وأن الكيان الصهيوني ما كان ليُزرع في قلب الوطن العربي إلا لتعميق تجزئته، وتفتيت دوله، ومنع إقامة أي مشروع وحدوي ناجح فيه؟. فمن هنا ندرك أن التركيز الغربي الصهيوني المحموم على تفكيك الدولة القطرية، إنما يعني ضرب النواة الأولى للوحدة، ونسف الإمكانية الواقعية لإقامتها…
وقل الأمر ذاته عن الحرية والاشتراكية، ألا يكمن أصل الداء العربي في تبعية معظم الأنظمة العربية، وخضوعها للهيمنة الأمريكية، وانخراطها الوظيفي في خدمة المشروع الامبريالي الصهيوني؟، وكيف يمكن، في ظل انعدام الاستقلال والسيادة الحقيقيين، أن تخدم تلك الأنظمة المصالح الحيوية لبلدانها وللأمة جمعاء؟. أليس النظام الرسمي العربي اليوم أداة طيعة بيد أمريكا و”إسرائيل” لتمرير صفقة القرن الترامبية التي فُصّلت خصيصاً لتصفية القضية الفلسطينية، أليس هو الذي دعم الإرهاب لإسقاط الدول الوطنية العربية، وأجج نار الفتنة المذهبية والطائفية لضرب المقاومة، وشنّ على حاضنتها العربية السورية أقذر حرب إرهابية عرفها التاريخ؟، وبأي حرية تتشدق الأنظمة التابعة، بما فيها تلك التي تزعم الانتساب إلى “الربيع العربي” المزعوم، بينما قرارها السياسي والاقتصادي والأمني مرتهن بالكامل للعدو؟، وهل في ظل الحريات الزائفة، والسياسات النيوليبرالية المتغولة، والتنمية المستقلة الغائبة، والعدالة الاجتماعية المفقودة؟، هل في ظل تبديد الثروات، والخضوع لإملاءات صناديق النقد، وتفشي الفقر والخصاصة؟… هل في ظل كل ذلك تستطيع الدولة القطرية أن تكتسب مقومات الدولة الوطنية الديمقراطية ذات النزوع الطبيعي إلى التكامل القومي…؟. كلها أسئلة تحمل أجوبتها في ذاتها، وتُظهر لماذا ما زالت أهداف البعث معبّرة عن تطلعات أوسع فئات الجماهير العربية في مختلف أقطارها.
يُحسب للبعث تمسكه بفكره وأهدافه، ومع أن هذا التمسك المبدئي لا يعفيه من بذل المزيد من الجهود المنهجية لتطوير نظريته وآليات عمله، إلا أنه يُعد في حد ذاته إنجازاً كبيراً في هذه الظروف العربية القاتمة التي أصبح فيها القابض على عروبته كالقابض على الجمر، ولا شك في أن البعث يعلم أن التحديات كبيرة، وأن الطريق إلى أهدافه طويلة وشاقة، كما يعلم أن مشروعه هو مشروع أمة يحتاج حاملاً تاريخياً واسعاً، وأن هذا الحامل لابد أن يرى النور في المستقبل…
فتحية للبعث الذي يستمر بكل شجاعة ومسؤولية في التصدي لحمل رسالة الأمة والدفاع عن مشروعها الوحدوي التحرري النهضوي في مواجهة مشاريع الاحتلال والهيمنة والتفتيت. تحية للحزب الذي يخوض اليوم واحداً من أعقد النضالات الوطنية والقومية التي يجمع فيها بين الإسهام الحيوي في إعادة بناء الوطن الذي دحر الإرهاب بأعظم التضحيات، وحمْل راية العروبة المقاوِمة، والإبقاء على مشروعها المستقبلي حياً لا يموت.
محمد كنايسي