فقدان روح
عبد الكريم النّاعم
ثمّة مسألة أراها على درجة عالية من الخطورة، وهي أنّنا بدأنا نتحوّل شيئا فشيئا إلى أن نصبح صورة عن الفرد الغربيّ، لا في اللباس وحده، أو في المقتنيات التي أصبحت عالميّة، ولا في قصّات الشعر، واعتماد أزيائه للرجال والنساء عندنا فقط، بل في طريقة التعامل مع الآخر، وأعتقد أنّ في هذا الكثير من الاغتراب الروحي، لا مجرّد (التغريب)، وهكذا يكون الغرب قد نجح في أن يجعلنا نسخة “فوتو كوبي” سيّئة للمواطن الذي صاغتْه الشركات الكبرى، ودورة الرأسمال الرّبوي، النهّاب، ودون أن يكون لدينا ماله من الضمانات التي يبدو أنّه مرتاح لها، بل هو حتى في هذه يحوّل الديمقراطية الحقّة في بلدان العالم المحتاج للنموّ إلى تقنيات ديمقراطية شكليّة لا أكثر، واستُلبت هذه المجتمعات حتى في عاداتها وتقاليدها، ولكي لا نظلّ في ميدان التنظير سأعيد إلى الذاكرة بعض ما كنّا عليه.
في المدينة كان التاجر، وهو الذي همّه الربح، حين يبيع ويرى جاره لا يبيع شيئا ويأتيه مشترٍ آخر يقول له” اذهب إلى جاري هذا فهو لم يستفتح اليوم”، فأين نحن من هذا اليوم؟!!
في القرية، حتى ما بعد منتصف خمسينيات القرن الماضي بقليل كانت روح التعاون، والإيثار قائمة، وتلك صفة تكاد تكون عامّة في المجتمعات المتشابهة، فالذي يبدأ بعمارة يندفع لمساعدته أقرباؤه، وجيرانه، وكلّ مَن يريد المؤازرة، ويقدّمون جهدهم دون أيّ أجر مادي.
القرية كلّها لم تكن تعرف بيع الحليب أو اللّبَن ومشتقاته، فقد كان ذلك لأهل البيت وللمحرومين من ذلك من أهل القرية، الذي ليس فلاّحا، ويبيع جهده مياومة يسمّونه ( العاطولي)، أو الباطولي) وهؤلاء ما كان ينقصهم شيء في أيام مواسم العجّور، والبطيخ، والجبَس، فقد كانت تصلهم هذه المنتجات إلى بيوتهم من الذين يقتطفونها، وكان ذلك واجبا أخلاقيّا، وعادة متوارثة، هم يتساعدون في جني المحصول، وفي حمْله إلى البيادر.
ما الذي بقي الآن من هذه العادات؟!! لاشيء، بل حدث العكس، فقد كانت الشكوى في مناطق الإقطاع من الإقطاعي فصار في داخل كلّ واحد منهم إقطاعيّ، لا يعرف الرحمة، ولا يهمّه أنين جاره، أو فقره، أو حاجته، كلٌّ شعاره “أسالك ياربّ نفسي”!!
إنّ أيّ بنيان حقيقيّ في هذه المجتمعات يُفترَض فيه إحياء روح الإيثار، والغيْريّة، والعطاء، ونفحة الخير، وفي تاريخنا القريب والبعيد العديد من النّماذج والمُثُل، وهي موجودة حتى في أدياننا التي لم يشوّهها الغزو الوهّابي، أو التلمودي، المتستّر وراء دعاوى أخرى، والمختفي بين تلافيف ما تبثّه أقنية فضائيّة مدعومة، ولعلّ أخطرها ما يتنكّر باللباس المذهبي، من أية جهة جاء.
هنا ربّما يأتي دور مَن ينتجون الفكر والأدب في التركيز على هذه القيم، وأعتقد أن بين أيدينا من النّماذج الفذّة التي برزت في الحرب الصهيوأعرابيّة الكثير الكثير، وأعود فأؤكّد على ضرورة أن تُسجَّل، وتُوَثَّق، لتشكّل خزينا روحيّا للأجيال القادمة، ولعلّ ما تركه المرحوم محمد خالد رمضان فيما سجّله عن مدينة عدرا ما يُعتبَر نموذجا يُحتذى، لاسيّما وأنّه سجّله والنّار تندلع من حوله في كلّ شيء.
إنّ المحافظة على البصمة الحضاريّة، والتي هي هويّة، لا تقبل التنازل، إلاّ عند مَن لديهم قدرة على الانخلاع من رائحة الأمّ والأرض، ولدينا الآن عائلات شهداء، وشهداء أحياء، وفقراء مُعدَمون، وهؤلاء أحوج ما يكون لأن نتقرّب عبرهم إلى رضى الخالق، وزرع بذور الإيثار، وضرورة ابتكار الحلول للوقوف بجانبهم، ولإشعارهم بأنّ مَن حولهم لم يتنكّروا لتضحياتهم، وفي ذلك شيء من عودة الوعي والروح لمجتمعاتنا المهدّدَة بالاستلاب….
aaalnaem@ gmail.com