أخبارصحيفة البعث

التداعيات الجيوسياسية لانتقال الطاقة

لعبت الطاقة دوراً تقليدياً في الجغرافيا السياسية العالمية، إذ ساهمت في صعود القوى العظمى، وتشكيل التحالفات، إضافة إلى ظهور الحروب والصراعات أيضاً. يستند كل نظام دولي في التاريخ الحديث إلى مورد للطاقة، فكيف يمكن لتحول الطاقة الجاري أن يعيد تشكيل الجغرافيا السياسية العالمية في المستقبل؟.

كان النفط بلا شك، ومنذ الحرب العالمية الأولى، حجر الزاوية في الجغرافيا السياسية العالمية للطاقة. وقد مثّل قرار وينستون تشرتشل لتغيير مصدر الوقود للسفن البحرية الملكية من الفحم إلى النفط، من أجل جعل الأسطول أسرع من نظيره الألماني بداية حقبة جديدة، فقد أدّى التحول من إمدادات الفحم الآمنة من ويلز إلى إمدادات النفط غير المؤكدة القادمة من الشرق الأوسط، إلى تحول الشرق الأوسط إلى مركز أساسي في الجغرافيا السياسية العالمية، وإلى أن يصبح النفط قضية رئيسية للأمن القومي.

لعبت السيطرة على الموارد النفطية منذ النصف الثاني من القرن العشرين، دوراً مركزياً في العديد من الحروب.

يجب أيضاً تذكر أنه في بعض مناطق العالم، مثل أوروبا، لعب وقود أحفوري آخر دوراً جيوبوليتيكياً مهماً للغاية وهو الغاز الطبيعي، ففي أوروبا تطورت أسواق الغاز الطبيعي منذ الستينيات بشكل خطوط أنابيب كبيرة تمّ بناؤها لربط روسيا والمنتجين الآخرين مثل النرويج والجزائر مع الأسواق الأوروبية الرئيسية، وقد أدى هذا الوضع إلى اعتماد أوروبا القويّ على إمدادات الغاز الطبيعي الروسية. وإذا كان هذا الوضع لسنوات عديدة -حتى في منتصف الحرب الباردة- لم يثر مخاوف جيوسياسية، إلا أنه بات يعتبر واحداً من التهديدات الجيوسياسية الرئيسية لأوروبا بين عامي 2006 و2009، عندما أدت نزاعات أسعار الغاز بين روسيا وأوكرانيا إلى توقف إمدادات الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا نفسها. وقد دفعت هذه الأحداث الغاز الطبيعي إلى قمة قائمة المخاطر الجيوسياسية بالنسبة لأوروبا، وأدت إلى صياغة إستراتيجية أوروبية لتنويع إمدادات الغاز الطبيعي، منها ممر الغاز الجنوبي قيد الإنشاء حالياً الذي يربط منطقة بحر قزوين بأوروبا عبر تركيا كمثال أوضح على ذلك.

ولكن إذا كان النفط والغاز الطبيعيان لأكثر من نصف قرن يشكلان قلب الجغرافيا السياسية للطاقة، فمن المنطقي أن نتحرّى ما إذا كان هذا سيتغير، وكيف سيصبح الأمر نتيجة للتحول العالمي للطاقة، وهي عملية تدفعها سياسات التخلص من انبعاثات الكربون، ومن خلال التطورات السريعة في تقنيات الطاقة المتجدّدة والسيارات الكهربائية.

يرى بعض الخبراء أنه بقدر ما تشعر البلدان المستوردة للطاقة بالقلق، فإن العواقب ستكون بالتأكيد إيجابية. في هذه الحالات، مع انخفاض واردات النفط والغاز الطبيعي، ستنخفض ​​كل من “فاتورة الطاقة الوطنية” والمخاطر الجيوسياسية المرتبطة بها. وستتمكن البلدان القادرة على الابتكار أكثر في الطاقة المتجدّدة والبطاريات والسيارات الكهربائية من جني المكاسب الصناعية والاقتصادية لهذا التحول، مما يولّد وظائف جديدة، ويحقق نمواً اقتصادياً. ولكن، بطبيعة الحال، فإن تحول الطاقة سيشهد ظهور تحديات جيوسياسية جديدة.

أولاً، يمثّل التحول العالمي في الطاقة تحدياً للبلدان المنتجة للنفط والغاز، وخاصة بالنسبة لأولئك الذين لديهم اقتصاد أقل تنوعاً وأكثر اعتماداً على عائدات النفط، وهذه هي الحال بالنسبة للعديد من البلدان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي، على الرغم من اعتماد استراتيجيات مفصلة للتنويع الاقتصادي، لم تحقق تقدماً كبيراً في هذا الاتجاه.

ثانياً، سيؤدي انتشار الطاقات المتجدّدة إلى زيادة الكهربة وتحفيز التجارة عبر الحدود في مجال الكهرباء. تتطلّب مصادر الطاقة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح أنظمة طاقة مرنة يمكنها التعامل مع تقلبات الظروف الجوية. وبالتالي، ستلعب شبكات الكهرباء الذكية دوراً متزايد الأهمية في ضمان استقرار النظام.

وثالثاً، من المهمّ التأكيد بأن التطور السريع لطاقة الرياح والطاقة الشمسية، جنباً إلى جنب مع السيارات الكهربائية، يثير المخاوف بشأن أمن إمدادات المعادن اللازمة لتصنيعها.

وبالتالي، فإن التحول العالمي في الطاقة لن يؤدي إلى نهاية الجغرافيا السياسية للطاقة، بل إلى تحولها.

عناية ناصر