صديق الرّحلة.. وداعاً
عبد الكريم النّاعم
بصدق أقول إنّني لا أعرف من أين أبدأ الكتابة عن الصديق الراحل الشاعر ممدوح السكاف، فالكتابة عنه تعني الكتابة عن أكثر من نصف قرن عشناه معاً، وقطعنا مراحله معاً، وكان بيننا مابين الأصدقاء الحميمين من مسارّات، ومكاشفات، وهموم، ومخاوف، ومطارحات، ولذا فأنا الآن، كمن يقف على شاطئ رحب الفضاء، لا أدري من أين أبدأ، ولكنّها محاولة وعسى أن ترقى إلى ما في هذه الأعماق، وما أظنّ، فبعض اللّواعج تظلّ أعلى من مستوى الكلام.
كان ممدوح رحمه الله رجلاّ إداريّا بحقّ، في جميع المواقع التي عُهد بها إليه، من رئيس لنقابة المعلّمين، إلى مدير للمركز الثقافي، إلى رئيس للمكتب الفرعي لاتحاد الكتاب العرب بحمص، إلى اعتذاره عن منصب رئيس اتحاد الكتاب العرب بدمشق، في زمن يتهافت فيه المتهافتون على ما هو أقلّ من ذلك بكثير، فقد كان حكيما في تقديره، متبصّرا في خطواته، يُضرب المثل بانضباطه في العمل والمتابعة، وهذه الصفات أهّلته لأن يكون صاحب تلك النجاحات، فقد كان في المركز الثقافي، أو في اتحاد الكتاب يستدعي بعلاقاته، وبصداقاته الواسعة، أدباء سوريّة إلى حمص ذات الخصوصيّة في حساسيتها الأدبيّة، وفي جمهورها، الذي قال عنه محمود درويش، بعد أمسية أقامها فيها: “هذا جمهور خطير”.
لن أترك للمساحة الإدارية أن تستهلك كلّ ما أريد البوح به عن ممدوح السكاف،
-كنّا، في شرخ الشباب، عدداً قليلاً من الشعراء، أو الذين أصبحوا فيما بعد شعراء، ممّن استهواهم نظام التفعيلة، ممدوح السكاف، موريس قبق، نصر الدين فارس، مصطفى خضر، عبد الكريم الناعم، أعتذر عن السهو عن بعض الأسماء، فكان ذلك خيمة نصبناها وجلسنا تحت قبّتها ودعونا الآخرين لزيارتنا، لافتتاح زمن جديد، -لا أنسى أوّل لقاء مع ممدوح، كنت في مكتبة “أتاسي وصوفان” أقلّب بعض المجلاّت، فدخل شاب وسيم، وسدّد نظره إليّ، وابتسم، وقال: “أنا ممدوح السكاف”، وكان بداية فروع تلك الشجرة.
-عن أيّة جهة سافرنا إليها أتحدّث؟!!، وهذا يعني أنه عليّ أن أقدّم مسحاً لمعظم الجغرافيا السوريّة، والسفر، كما يقولون، “كشّاف”، ومن لم تسافر معه فأنت لا تعرفه جيداً.
-كانت حمص تجري في دمه، فهو لا يطيق فراقها، وكيف لا، وهو الذي ترعرع في حارة من حواريها الفقيرة القديمة، فهو ابنها انتماء، ووفاء، ولصوقاً، وابن شريحة من شرائحها الاجتماعية الفقيرة، شروانا.
جرّب ذات يوم أن يذهب في إعارة للجزائر ذات عام، وبعد اثني عشر يوما جاءني صوته عبر الهاتف، فصرخت مرحباً، ومستفسراً عن أحواله، فضحك وقال: “أنا أكلّمك من حمص، لقد عدت”، هذا الذي لم يطق فراق هذه المدينة كان عليه في أواخر سنوات حياته أن يتغرّب فيها، فقد اضطرّ لمغادرة بيته في مساكن المعلمين – طريق حماه، لأنّ الدواعش الوهّابيّين على تماس مع البيت، فتركه بما فيه، بأحلامه، بمشاريع كتابيّة كان يعمل عليها، بمكتبته، بأوراقه، برائحة الأيام فيه، بمسوّدات كان يعدّها عن الشاعر الحمصي عبد السلام عيون السود، بما كان يختزنه لأيام تقاعده… غادر كلّ هذا، وصار غريبا عن بيته وهو مقيم في المدينة ذاتها!!
من حمص، في سنوات الحريق الأخونجي، الوهّابي إلى “دروشا” قريبا من دمشق، بعيدا عن حمص، ثم العودة إلى حمص ومغادرتها إلى “عمّان” في الأردن حيث كان آخر المطاف.
حرقة وغصّة في القلب أيّها الطفل الثمانيني أن ترحل وأنت بعيد عن حمص، وألاّ تخرج المدينة لوداعك، بأصدقائك، وطلاّبك، ومحبّيك وما أكثرهم.
صديق الرّحلة، والشعر، والحلم، والانتماء وداعاً يتقطّر الحزن من مسام لوعته..
aaalnaem@gmail.com