ثقافةصحيفة البعث

إيليا أبو ماضي .. والروح الفلسفية

 

يعد إيليا أبو ماضي أحد شعراء المهجر الذين مشوا الخطوات الأولى في درب تحديث الشعر العربي، واختطوا لأنفسهم نهجاً ميّزهم في تلك الآونة عما كان دارجاً في ميدان نظم الشعر، وقرضه. كما يعد شعره نبعاً لا ينضب، أثّر في التكوين الثقافي والفكري، والتذوق الشعري للكثير ممن جايلوه، أو جاؤوا لاحقاً من النقّاد والباحثين الذين وجدوا فيما نظمه أبو ماضي لمحة جمالية جديدة، أو القرّاء الذين تعمقت لديهم عبر مطالعتهم لأشعاره الفكرة، ونما عندهم الإحساس، فهو شاعر من النوع الذي يفتح أمام القارئ باب المشاركة في إغناء القصيدة.

انطلاقاً من هذا، وتأكيداً على ضرورة تفعيل حضور أشعار الشعراء الكبار كأبي ماضي وغيره في ذاكرة الشباب العربي اليوم، وإبقائهم في دائرة الحضور والتأثير لما لذلك من دور ضروري وهام في النهوض الثقافي الجديد جاءت هذه الدراسة الصادرة عن دار الينابيع والتي حملت عنوان (إيليا أبو ماضي “الروح الفلسفية في شعره”) لمؤلفها عطية مسوح، محاولة عبر 249 صفحة من القطع المتوسط، الإجابة عن جملة من الأسئلة عبر ولوج عوالم نصوص أبي ماضي التي تحمل تفرده، وتتجلى فيها خصائص شعره الفنية، والغوص فيها بحثاً، وتحليلاً، للكشف عن سمات جديدة في شعره، فنياً وفكرياً.

بدأت هذه الدراسة في تلمس الروح الفلسفية في شعر أبي ماضي عبر التركيز على ثلاث نقاط أولها مرور شعر الشاعر بمرحلتين وُسمت الأولى منهما بالتقليد حيث لم يتجاوز أبو ماضي فيها موضوعات الشعر العربي التقليدية إلا نادراً، ولم يبتكر المعاني والصور غير المألوفة، ولم يُضف شيئاً مهماً إلى ديوان الشعر العربي، وكانت هذه مرحلة الإسكندرية قبل انتقاله إلى المهجر. ودخل أبو ماضي رحاب التجديد الشعري بعد انتقاله إلى المهجر إذ غمرت النزعة التجديدية شعره، وغدت سمة عامة له فيما بعد، وقد اتكأت هذه النزعة على ركيزتين أساسيتين، هما: موهبة الشاعر العظيمة، والبيئة الثقافية والاجتماعية الجديدة التي انتقل إليها أبو ماضي والتي كان التجديد فيها ضرورة موضوعية.

بعد تحرر أبي ماضي من ربقة الموضوعات التقليدية التي طغت على شعره في المرحلة الأولى، اتجه إلى تناول الموضوعات الذاتية والوجدانية، والتأملية والفلسفية. وظهر لديه في محراب التجديد ذاك الذي انتهجه خطاً انسحب على معظم ما نظمه من أشعار في المهجر ما عُرف بـ (القصيدة الفكرة) وهي قصائد قصيرة مفصلة على مقدار الفكرة التي تحملها، ولكنها غنية بالخصائص الفنية التي تضعها في مصاف الشعر الرفيع. كما برز كذلك في شعره ما عُرف بـ (القصيدة الموقف) وهي كقصائد الفكرة، تتسم بالتكثيف والقِصر، وكثيراً ما تُستخدم فيها تقنيات (القصيدة الفكرة) ذاتها. ولغة أبي ماضي الشعرية لم تبقَ في معزل عن التجديد الذي طال موضوعاته، إذ إنه مع عموم أدباء المهجر نهجوا في استخدام اللغة نهجاً مختلفاً، فهم لم يقفوا منها موقفاً جامداً، بل تعاملوا معها بوصفها لغة قابلة للتطور وقادرة على حمل المضامين العصرية دون التفريط بقواعدها الأساسية، التي، هي أيضاً، يجب أن تتحلى بالمرونة كي تكون أسهل استخداماً، وأقل تعقيداً، وأبو ماضي، مثله في ذلك مثال أبناء جيله، لم يواكب الثورة الكبرى التي حدثت في الشعر العربي الحديث، أي تفجير البحر وانتزاع التفعيلة وبناء النص عليها، وتفجير البيت وبناء القصيدة على (العبارة الشعرية والمقطع)؛ ولعل عدم مجاراة أبي ماضي لشعر التفعيلة لا يضيره في مجال التجديد، بل لعل ذلك يكون نقطة إيجابية أخرى لشعره الذي أثبت أن قصيدة البحر قادرة على حمل المضامين الحديثة والعصرية، والمواقف والمشاعر الإنسانية العميقة، إذا كان كاتبها مبدعاً حقيقياً.

والقارئ لأشعار أبي ماضي في مرحلتي التقليد والتجديد يلمس فرقاً واضحاً وجلياً في استخدامه الصورة الشعرية؛ فهو في مرحلة التقليد كان يسعى إلى الصور سعياً حثيثاً فلا يصطاد إلا التقليدي منها، على حين أنه انتقل في مرحلة التجديد انتقالاً واضحاً من جهة استخدام الصور الشعرية حيث بات ينتقي الصور الجديدة التي تقوم على المحاكاة المجازية خدمة لأغراضه الجديدة التي انشغل بها، والتي تناولت القضايا الكبرى التي تُهم الإنسان في كل زمان ومكان، كقضية مصير الإنسان بعد الموت، وقضايا السعادة، والجمال، والحب، والطبيعة؛ وله في تلك القضايا قصائد بلغت مبلغاً عالياً من الجودة الفنية والفكرية.

سلام الفاضل