الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

“تراتيل الودق”.. من ثيمة القوافي تندرج الحداثة

 

ما بين غرار العشق وأغوار الأمل ومعاني الألم، ومن خلال التأريخ وبمصداقية لتفاصيل الحياة بعين المترصد لماهيتها، كتب الشاعر ثائر محفوض قصائد ديوانه  الأول “تراتيل الودق”، وكأنه وقف على قمة جبل يطل على السهول وشطآن البحر حيث تقبع قريته الأم، ليرى من الأعلى مصورا ما في بصيرة المتلقي، وهي مهمة الشاعر وصلة وصله مع قارئه، ونقشع من همسات ما نجوب به من الشعر الخليلي المقفى والمرهف بالمعاني الطيعة حكايا مرصودة، إذ أن الشاعر ينحدر من “الزجل”، وهو ما أعطاه البلاغة والموسيقى في آن معا، لقد صور بريشة فنان معاني أعطاها ذاك الجلال متبنيا معنى عنوانه، إّذ نجد القصائد تلونت كقوس قزح فكانت التاريخية لهذه الفترة من اللون الأحمر الذي يشير للخطر المحدق بالأمة، والأصفر إنذار بأن نور الشمس بالصباح يأتي كل يوم ولابد من الفرج، والأخضر الذي يبعث في نفس العاشق أزلية الخصب، فالحب لا ضفاف له في بحر الحياة:

هل كلُّ ميراث الصحارى مؤلم

ذبح بأمر الجهل ما بين الفراق

هذي جراحي كيف أحصي عمرها

أعمارنا سفكت بأسياف الورق

ونلحظ الانزياح والتصويرية الرومانسية في صوره الغناء كما في قصيدة ضياع الحسن إذ يطرح لوعة الغربة حيث الشوق غذاء الروح:

يا زمانا عد بقلبي علّه يحيا

فوق كف الطهر ساعات الغياب

حيث أمي رمشها يمشي شعري

أي مشط قد يواسي في اغتراب

وفي قصيدة “طائر الفينيق” دخل حيز الحرب وتوثيق الأحوال وهو دور عميق الرؤية، فنحن ضيوف قاسيون وبردى المثقلين بماهية حياتنا، فكلما هزها الشر استدركت الخير:

لا تجعلوا في الدين بائنةٌ لنا

كلٌّ بدين الحق ما شاء اعتنق

حبوا على دين الهوى إخوانكم

والرب يرضى كلما الجمع اتفق

وفي قصيدة “ثغر الحبيب” نجوب في العشق الذي خصه الجزء الأوفر من ديوانه إذ أنه دمج جمال المحبوب بجمال الحياة، هو دور يمجد الهوى وشغف العشق:

خذ بالنصيحة أو سيفنيك الجوى

خمسون مرت والعشيقة أرسم

من بعد فرض الحب حين أدائه

صلوا على أهل الغرام وسلموا

وفي قصيدة “تسألني” دراما جميلة أجاد فيها:

وتسألني لماذا الشيب بانا

فقلت لها نقاء الحب رانا

ولو عدنا بذاكرة لماضٍ

سنحمد ربنا فيما عطانا

وقرأ الجانب الإنساني في  قصيدة “الشهيد” معبرا عن حال الأزمة التي خصها الكثير إذ أن الوجع له صداه في كل النفوس:

أسرى بك الباري وهجرك يوجع

ولأمر رب الكون طوعا تخضع

حمالة العرش الملوك ترقب

نحو السماء بنور عرشك ترفع

ومن قصيدة “دمشقي الهوى” نتنفس الشعر الوطني بأعلى مراتب الهوى الذي يعالج الحال بلغة تحنن القلوب:

سلوا عنا سفوح الشيخ تحكي

وذا بردى يحنُّ لملتقانا

أرى الأيام قد قلبت وصرنا

كما بردى الهزال قد اعترانا

إنه شاعر المعاني المحدثة بالمقامة الخليلية، بزمن المنثور من الشعر المغرق بالانزياح، إذ نقرأ:

فالكون لولا لهفةٌ من عاشق

سترى الوجوه بلونها تتجهم

تجربته المتميزة في قصائد تناغمت كصوت المطر على حفاف السهل والوادي، إّذ تعمق بجداول الحقيقة ورصد الأحلام بين طيات الغمام، أما الألسنية في شعره فقد جاءت على مستوى النبرة والإيقاع بجمالية فيها سر الشعر المعنى بالقوافي، والموصول بأوزان الخليل التي أجادها واسبغ عليها الحداثة عبر التصوير والأفكار، واختياره للمفردات، فقدم نموذجا حيا أن الحداثة لا تفترض التغريب عن الجذور، بل بالإضافة لها وتمكينها من لغة العصر لتكون الرسالة المستمرة لأجيال العرب.

كم جميلٌ أن تكون الأرض أنثى

حين أصل الخلق من هذا التراب

يقع الكتاب الصادر عن دار سوريانا |2019 بطبعته الأولى في 118 صفحة من القطع المتوسط.

رجائي صرصر