ثقافةصحيفة البعث

نتفلكس.. ليس على أكتاف ماركيز

أعلنت شركة نتفلكس مؤخرا عن مشروعها بتحويل رواية  “مئة عام من العزلة ” للرّوائي الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز 1927- 2014، إلى سلسلة فيلمية تُبث على الانترنت،الشّركة اشترت حقوقها،واتّفقت على ذلك مع الورثة.

نتفلكس شركة بث برامج وأفلام عالمية، بدأت عام 1997 في كاليفورنيا، وفي عام 2013 بعد الانتشار الذي حققته بدأت بإنتاج الأفلام وتمكنت من التعاقد مع كبار النجوم العالميين، وحصدت العديد من الجوائز العالمية وبدأت تنافس هوليود ذات نفسها، وهي في خطوتها الجديدة هذه، ربّما تنظر إلى الأمر من باب “الضّخامة” والرّغبة في تحقيق السّبق،وذلك بربط اسمها باسم كبير.

لقد كتب ماركيز وتألق ونشر أدبه في العالم وقدم الشهرة لبلده الفقير والنائي،بل وقدّم أميركا اللاتينيّة ككل، وفجّر اهتماماً عالميّاً بأدبها، واستطاع أن يفرضه على العالم، ليس في عصر الطباعة وتألّق الرّواية في القرن التاسع عشر، أدب ماركيز لم يكن في منافسة أو مواجهة أو محاولة لإثبات الذّات في قرن دوستويفكسي، غوته، هوغو،وتشارلز ديكنز، وإنما في القرن العشرين وبالتّحديد النّصف الثّاني منه، أي في أوج تألق السينما، مستعملاً  تقنيّات أدبيّة قصصيّة جعلت نتاجه في مواجهة مع السينما نفسها، بعد أن نجحت الأخيرة بتقديم نفسها كوسيلة أولى للقصّ، ساحبة البساط من تحت المسرح والرّواية، ماركيز أثبت أنه لا غنى عن الرواية، ولا شيء يحل محل الأدب، وذلك في قمة ازدهار الصّورة المرئيّة الفيلميّة، وانتشارها.

“يبدو أنّك تتعامل مع أكثر من زمن في آن” هكذا قال أحد معلّمي ماركيز له بعد أن قرأ نسخة أوّليّة من إحدى رواياته المبكرة، ماركيز يذكر ذلك التّفصيل المهمّ في مذكّراته، ويُضيف”كان يتكلّم عن مسألة حياة أو موت بالنّسبة لي”، هذه المسألة هي التّقنيّة الأهمّ الّتي تجعل من الصّعب تحويل أدبه إلى مشهد سينمائي، فالمشهد في داخله، يفرض زمناً واقعياً، له نفس سرعة الزّمن الواقعي، ويحدث الآن؛ في السّطر الأوّل من “مائة عام” نقرأ: “وبعد سنوات طويلة كان على الكولونيل أن يتذكّر” هناك تقويض لمفهوم الزّمن، وسيرورته في أدب ماركيز كله، هذه النّقطة قد تعني أنّ أي محاولة لتحويل أدبه إلى مادّة مرئيّة، ما هي إلّا مغامرة فاشلة. كما أنّ أسلوب ماركيز يعتمد بشكل عام على التضخيم والاستطراد إلى ما لا نهاية في كل فقرة حتى يظن القارئ أن لا نهاية لتضخيمه، ثم يتوقف عن ذلك عندما يشاء، فالخيال عنده بلا حدود، ولو تناولنا رواية “خريف البطريرك” مثلا سنجد أن العوالم الداخلية للبطريرك كبيرة وتأخذ جانبا هائلا من القصة، سيضحي بها من يحولها لفيلم، ويخسرها المشاهد، وعلى سبيل الذّكر وليس الحصر، هناك شخصية ثانويّة لمشعوذ يصفه الكاتب هكذا: “كان قادراً على التخفّي بورقة شاب السباتي أو التنكّر بهيئة مستنقع” وصف كهذا كيف يمكن للسينما أن تقدّمه؟

وماذا سيفعل السّيناريست بمواجهة أسلوب ماركيز الصحفي البحت الذي اعتمده في روايتي “قصة موت معلن” و”خبر اختطاف”؟! فقد تمكن من أن يروي الرواية التي تدور أحداثها في يوم واحد، أو في عدة أشهر أو عام منذ البداية إلى النهاية عن طريق الخبر الصحفي، اعتمد أسلوب الخبر والتقرير فقط ببساطته وسلاسته ونقله المعلومة وترتيب الأفكار لمواكبة الحدث، الروايتان كانتا محاكاة للسينما الوثائقيّة،وليس الرّوائيّة.

وماذا عن “ذاكرة غانياتي الحزينات” التي يهيم فيها البطل بعوالمه الداخلية وأفكاره وأحلامه ومشاعره طيلة الرواية إلى جوار فتاة نائمة لا تفتح عينيها ولا تكلمه.

أما عند رواية “الجنرال في متاهته” سيجد السيناريست نفسه أمام تقنيّة زمنيّة معاكسة؛ القائد الّذي حرّر أميركا اللاتينيّة، ووحّدها، تبدأ قصّته مع ماركيز وهو ينهض من حوض الاستحمام، ليشقّ طريقه إلى المنفى بعد أن تآمر عليه أصدقاء الأمس، وبذلك تمكن الرّوائي من إثارة التعاطف وتحويل البطل إلى أسطورة بتقديمه كشخصيّة تراجيديّة، أمّا عند تحويلها إلى فيلم فلن نرى سوى فيلم حروب وأكشن!

حتى أنّ أكثر رواياته قابليّة- نسبيّاً- للتّحويل”الحبّ في زمن الكوليرا” ورغم أنّه وافق على تحويلها بعد إلحاح دام ثلاث سنوات،ولقاء ثلاثة ملايين دولار، فإنّ السّيناريست”رونالد هارولد” ارتكب خطأ فادحا عندما حذف شخصيّة المصوّر البلجيكي منها،وهو الّذي تبدأ الرّواية بدخول الطّبيب خوفينال أوربينو للكشف عليه بُعيد انتحاره، الكارثة أظهرت أنّ ما هو “أدبي” عند القراءة، من السّهل أن يتحوّل إلى “جنسي– إثارة” عندما نراه على الشّاشة.

العائق الأكبر أمام تحويل “مئة عام من العزلة”، أن البطولة والحضور ستنتقل من كونها للزمن في الرواية، لتُصبح للمكان “بيت العائلة” الّذي لا بدّ أن يبقى حاضرا في السينما، لأننا في الرواية يمكننا التوقف عن تصوّر المكان بتوقّف الكاتب عن وصفه، من فصل إلى آخر.

قال ماركيز يوماً “أنا لا أريد أن أرى الكولونيل أوريليانو بوينديا يتحول إلى أنتوني كوين على غلاف الرواية!” هذا المبرّر الأكبر في رفضه لذلك، ويُضيف أن  “السيناريو مسمار في ماكينة السينما” و”أستطيع القول إن ما كنت أراه على الشاشة هو أبداً ليس ما تخيلته أثناء الكتابة” وقال أيضا”أنا أكتب والقراء يتخيلون”.

لا بد لعشّاق ماركيز أن يشعروا بالقلق من مشروع نتفلكس الجديد، فقد يؤول أدبه يوماً ما للنسيان إذا ما تم تحويل رواياته لأعمال سينمائية وتلفزيونية مشاهدة، كما حدث عندنا لأدب حنا مينه الذي غاب خلف أعمال تلفزيونية وسينمائية لم يكن أيّ منها على مستوى الرواية نفسها، القارئ سيتوقّف عن القراءة ظنّاً منه أنّه يعرف القصّة، أو لأنّه لا يرغب بإعادتها بعد أن رآها بطريقة أسهل، فالمشاهدة أسهل من القراءة.

حلا خيربك