تداعيات
سلوى عباس في لحظة من غربة الروح أرسل يحدثها عن افتقاده لها في دنيته البعيدة، وعن حاجته لأن تكتب له لتقرّب المسافة بينهما فخاطبها: يبدو أننا نسينا في يوم ما أن نكتب تعهداً يقضي بأن نفرغ بعضاً من وقتنا الثمين لنكتب مرة في الشهر لبعضنا، مرة كل 40 يوماً، ولو برسالة تتضمن ثلاث كلمات أو اثنتين، أو رسالة فيها كلمة “مرحبا”.. نسينا ونحن نتوادع أن نذكّر بعضنا بأننا سنبتعد آلاف الكيلو مترات، ولم نعط وقتها للحبر ولحروف الكتابة قيمتها التي لا يمكن لأحد أن ينكر تأثيرها بمنحنياتها العاطفية، ونقاطها التي تختزن رجفات القلوب.. لا يمكن لأحد أن يتجاهل دورها في ربط قلبين، ودورها الرائع –يوماً- في الكلام حين يتعثر اللسان في استحضار كنوز الحالات، والعثور على حروف صوتية حين تغص الحناجر بالارتباك وتطغى حرارة الحب على رصانة اللغو وعبث الكلام.
كم أتوق الآن وقع حروفك في قلبي، وكم أحن أن ألمّك فيّ فلا يبقى بيننا من الكلام شيء ونترك لقلوبنا أن تتلامس وتفضي لبعضها ما عجزنا عنه، وكم أرسم لحظة لقياك، وكيف سأحملك عن الأرض التي باعدت بيننا مرة، وأمد يدي أغلق ستار الزمن وأسوّر بضلوعي رحب المكان، وأحبك بكل ما أستطيع.. انتبهي إليّ قبل أن ترهقني الأحلام، وقبل أن يهدني الشوق..
آه.. كم ترعشين البال، وكم على ضفة القلب افترشت النبض.. كم من العصافير طيرت في فضاء الروح.. أهيم في الحلم ألاحق طيفك الدخاني فيهرب مني بين أضلاعي.. يسود عطرك كل أرجائي فأتبع الضوع، أضمك إلى قلبي تماما فيسدل الحلم عباءة الغبطة على روحي، وتخفت استضاءات النجوم وأصحو.. أحاول استعادة الحلم البهي من الثواني التي هربت إلى ضوء نافذتي.. أهم أن أطير وراءها فلا أجد أجدى من أن آتيك فألقاك دونما طيوف.. دونما ظلال.. ألقاك أنت كما أنت. فمنذ أودعت مفاتيحي لديك وشرعت كل أبوابي عليك تماثلت الأضداد وتشابهت العناصر، وتوافقت في خلافها النقائض، تساوى الليل بالنهار، واعتدلت زوايا الضوء في موشورها الكوني، واقترب الجحيم من ربا الجنان، وبقيت أنت باسقة متفردة لا يجاريك شيء ولا يدانيك.
التقيتك ذات يوم وكان الحزن يغسل وجهك ضياء وألقاً، وهاأنا اليوم أغادر هذا الوجه وأبتعد، وأنا أعلم يقيناً أنني أغتسل به في أعماقي.. تلك القصص ستحكي لك كم كنت أعشق عينيك حين تومض عند الغروب، وسيبقى وجهك منارة ليلي البعيد، وقبل الرحيل أقول لك آه من هذا الوجع.
اليوم وقد ملأ الحزن الدنيا وأخذ من روح هذه الصبية كل مأخذ، تتمنى أن يكون بمقدورها امتلاك جواز سفر يعبر بها إلى من ظلوا رغم الغياب يشكلون ماضيها وذاكرتها الجميلة، فهل الحياة تفرض علينا أقدارنا، أم نحن الذين نختارها..؟ أم أن ما تبقى لنا من عمر قصير هو ما يجعلنا نهرب من ذواتنا لننكفئ على أوجاعنا التي حفرت أخاديدها في أعماقنا، دون أن يلامس أحدٌ ما بداخلنا من جروح تنزف ألماً، ومن تسبّبوا بها هم آخر من ينتبه إلينا!.