“لي حبيبـــــان.. الحمــــار وحفيــــدي حســـــني”
ما لحق بالحمار من صفات سلبيّة، فيه الكثير من الظلم والتّعسّف، بالإضافة لعدم الدقّة العلميّة أيضاً. ولأنّه كائن وديع وصبور ويتحمّل الصّعوبات كنّاه العرب بأبي صابر. وهو سريع التّعلّم وبعيد عن الغباء، إذْ يأتي في المرتبة الثالثة بعد الحصان والقرد ذكاءً، والأهمّ من كلّ ذلك أنّه لا يكرّر أخطاءه كما هو متعارف عليه، ولا يقع في الحفرة مرّتين، كشأن الكثير من البشر، ويعرف صوتَ صاحبِه، ولا يأتمر بأصوات غيره، كما يتذكّر طريقه بسهولةٍ مهما كانت وعرة وطويلة، لو مشى عليها مرّةٍ واحدة. وكنوع من التّقدير له، خصوصاً وأنّه كان وسيلة الأنبياء في التّنقّل والتّرحال، سُمّي أحد الملوك التّوراتيين الذين قُتلوا على يد أبناء يعقوب واسمه “شيشم” بـ “حامور”. وقد امتطته السيدة مريم العذراء أثناء السّفر مع ولدها يسوع ويوسف النجار إلى مصر. كما ركبه السيد المسيح برحلته الأخيرة نحو القدس. ولأهمّيته لدى العرب أهدى المقوقس رسول الإسلام إليه، حماراً اسمه يعفور.
من أشهر رموزه القديمة “حمار العزيز وحمار جحا”، وقد ذكرته المدوّنات التّاريخيّة الكبيرة كـ”ألف ليلة وليلة” وكتاب “كليلة ودمنة” الذي أجرى على لسانه الكثير من القصص الرمزيّة التي تستبطن نقداً للأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة السّائدة آنذاك. وكتب عنه الألماني العالمي “غونتر غراس” رواية سمّاها “الحمار”. أمّا في الأدب العربي فاشتهر حمار الأديب والمسرحي المصري “توفيق الحكيم” الذي رافقه في مراحل عديدة من حياته ودارت بينهما مناقشات كثيرة. وللدكتور “يحي حقي” كتاباً اسمه “خلّيها على الله” أفرد فيه فصلاً كاملاً عن الحمير بعنوان “وجدتُ سعادتي مع الحمير”، ودافع عن ذكائه الأديب عباس محمود العقاد، وألّف “جورج جرداق” كتاباً عنه سمّاه “حديث الحمار”. أمّا في بلاد الشام فقد اشتهر حمار “حسني تللو” الذي ذكرته مجلة “المضحك المبكي” بالقول تحت عنوان تكريم حمار حسني تللو: (حمار السيد حسني تللو يعد سيّد الحمير دون مبالغة، وإذا نظرت إليه يمشي حسبته بغلة زرزوريّة وهو ابن أصل معروف أباً عن جد، والحمير مقامات.. الخ). كما ابتدعت هذه المجلة شخصيّة كاريكاتوريّة ساخرة ناقدة هي الحمار. يُعالج الكتّاب من خلالها قضايا المجتمع وفساده. وظهرت في حمص مجلة “الحمارة” لصاحبها “نجيب جانا” كان اسمها يتغير حسب الحالة السياسية وأجواء القمع. فتارة هي جريدة “البغلة” وأخرى “حمارة بلدنا”. وفي لبنان نحتْ جريدة الصيّاد منحى جريدة المضحك المبكي في تسخير رسم الحمار للنقد ومعالجة القضايا المعيشيّة.
وهناك قصّة دمشقيّة طريفة بطلها الحمار، تقول: بأنّ الإمبراطورَ الألماني “غليوم” وزوجتَه فيكتوريا زارا دمشق القديمة بدعوة من السلطان العثماني عبد الحميد. عام 1898م. فاحتفى بهم الدمشقيّون أثناء جولتهم مع الوالي. وأرادت الإمبراطورة الألمانيّة أن تصطحب ذكرى معها من دمشق فرأت حماراً أبيض اللون يعود بملكيّته لـ “أبي الخير آغا تللو. وهو من وجوه دمشق المعروفة بخفّة الدّم وحضور النكتة الدّائم. الذي كان يفاخر متفكّهاً في جلساته: “لي حبيبان الحمار وحفيدي حسني”. وحين فاتحه الوالي برغبة الإمبراطورة الألمانيّة باقتناء حماره،جاوبه أبو الخير: يا أفندينا لديّ ستة رؤوس من الخيل فإن شئت قدّمتها كلَّها هديّة للإمبراطورة أمّا الحمار بالتّحديد فلا. وحين استغرب منه هذا التّعلّق بالحمار أجابه: يا جناب الوالي، إذا أخذتْ الإمبراطورة الحمار إلى بلادها فسيصبح الحمار الشامي مجالاً للسخرية في جرائدهم، وسيقال أنّ الإمبراطورة لم تجد في دمشق ما يعجبها غير الحمار لذلك لن أقدّمه إليها. ولن أبيعه، فضحك الوالي وذهب إلى الإمبراطورة ونقل إليها ما دار من الحديث مع أبي الخير آغا تللو فضحكتْ هي وزوجها كثيراً معجبين بالجواب وظرافته، ومنح أبو الخير وساماً من قبل الإمبراطور سمّاه وسام الحمار الذي ذاع صيته طويلاً في الشام.
ولمجمل الصّفات آنفة الذكر، دخل الحمار السّياسة من بابها العريض، بثقله الرّمزي الكبير، ليتّخذه الحزب الديمقراطي الأمريكي شعاراً له، بهدف إظهار مقدرة الحزب على العمل والمتابعة. لكنّ ولوجه إلى حلبة السياسة، أعاد إلى الذاكرة الصّفات السلبيّة المتوارثة عنه. وخاصّة صفة “تكرار الأخطاء السّابقة، والسّقوط في الحفر” وهذا ما رأيناه في السلوك الموتور لـ “ترامب” الذي يقفز بغباء من حفرةٍ إلى أخرى، ويعيد تكرار أخطائه على كامل خارطة العالم محاولاً جرّ الجميع للسقوط معه، فتارة يقدّم القدس للصهاينة كهدية ممهّداً الفرصة لإعادة انتخاب اليميني المتشدّد نتنياهو، ثمّ يعده بالضفّة الغربيّة. وتارة يعترف بسيادة إسرائيل على الجولان المحتلّ مستكملاً خطوات ما سمّي بصفقة القرن، بتواطؤ وشراكة كاملة مع الأنظمة العربيّة، ضارباً عرض الحائط بحق الشّعب السوري باستعادة أرضه. متنصّلاً من الاتفاقات الدّوليّة التي أبرمها أسلافه مع دول العالم. ما أفقد أمريكا مصداقيّتها في كلّ المجالات. عجباً ،ألا يقرأ هذا الـ.. المتغطرس الملتاث،مقولة التّاريخ؟. ليعلم أنّ فاقد الشيء لا يعطيه؟.
أوس أحمد أسعد