فرصة أخيرة للتعقّل
لطالما اعتقدت أنظمة الخليج أنها بمنأى عن الاهتزاز والاستهداف بما أنها تنفّذ ما يطلب منها من البيت الأبيض، وتدفع ما يتوجّب عليها دفعه مقابل الحماية الأمريكية، وهذا ما جعلها تجاهر بعدائها لجيرانها، واستعدادها لتنفيذ السياسات الأمريكية، حتى لو أدى ذلك إلى غرق المنطقة في بحر من الدماء، وخنق شعوب برمتها، ليأتي ما لم يدخل في حساباتها، فاستهداف محطات ضخ النفط في السعودية يؤكّد أن أمريكا تستطيع تأمين بقاء العروش التي تخدمها، لكنها لا تستطيع بأي حال منع من ترتكب بحقهم يومياً المجازر، وتدمّر مقراتهم من بعث رسائل تحذيرية يمكن أن يتوسّع نطاقها في حال استمر هؤلاء في حقدهم وعبثيتهم مع جيرانهم، وتدلل على أن الحرب، التي يتمنّون حدوثها، ستحرق أولاً أيديهم، التي أزهقت أرواح آلاف الأبرياء، وشرّدت الملايين بين أصقاع الأرض، في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
مؤسف حقاً أن بعض العرب لم يتعلّموا من تجاربهم مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة- والتي استنزفت ثروات طائلة في حروب مع دول الجوار لم تخدم بالنتيجة سوى الكيان الصهيوني، وشركات تصنيع السلاح في أمريكا وأوروبا- وما زالوا يصرّون على الاستمرار في طأطأة الرأس والسير على ذات الإيقاع، بل ويدفعون إلى توسيع رقعة الاشتباك في المنطقة، وبما يؤدي إلى مسلسل طويل من ضرب المصالح على حساب التنمية ورخاء الشعوب، وهذا ما تريده بالضبط إدارة ترامب، وتمّ التمهيد له بانسحاب الرئيس الأمريكي من الاتفاق النووي مع إيران، باستجداء خليجي ومباركة من نتنياهو.
لكن المتضرّر الأكبر من جملة ما يحدث هم من أوقدوا جذوة النار، ويصرّون على النفخ فيها دون أن يحسبوا أن معادلات القوة تغيّرت لمصلحة المحور المناهض للسياسات الاستعمارية، والقادر على الصمود والمواجهة، وإلحاق الضرر بكل من لا يزال يعتقد أن أمريكا مستعدة لإنزال جيوشها وخوض حروب، ربما تقضي على ما تبقّى لها من نفوذ في هذه المنطقة، وهذا ما تدركه واشنطن تماماً، الأمر الذي جعل صقور إدارة ترامب يستبعدون فكرة اندلاع حرب شاملة، ما يعني أنه لا تغيّر في الاستراتيجية الأمريكية القائمة على قيادة المعركة من الخلف، وتحقيق الأهداف التي تريدها دون أن تخسر جندياً أو تدفع دولاراً واحداً، بل على العكس، فتسخين جبهات توتر جديدة سيعود بعائد وفير على خزائن الغرب من أموال دول البترودولار كضريبة للانقياد الأعمى للإملاءات الأمريكية.
ما يعني أن أنظمة الخليج تكفّلت مرّة أخرى بتحمّل أعباء التخريب والتدمير بعد مساهمتها الفعّالة في تدمير سورية والعراق واليمن وليبيا، لكن ومع اقتراب النار من حدودهم، بل ووصولها إلى أطراف عباءاتهم، فإن الأموال فقط لا تكفي هذه المرة لدفع الفاتورة، حيث إن أي خطوة عدائية أو مساعدة في تجاه التضييق على محور المقاومة ستقابل برد فعل مضاعف، ولا نرى أن الممالك والمشيخات قادرة على تحمّله بعد أن أحاطت نفسها بهالة من الأعداء كرمى لعيون “إسرائيل”، والرد حتى الآن ليس أكثر من إنذار لمراجعة الحسابات قبل التورّط أكثر في الانصياع لرغبات ترامب وحماقاته.
الوقت لا يزال متاحاً أمام المطبّلين للحرب لقراءة الرسالة بتمعن، وأخذ فرصة أخيرة للتهدئة والتعقّل والكف عن التدخلات السافرة في شؤون دولة دفعت أثماناً باهظة في دعم المقاومة للاحتلال الإسرائيلي والوقوف إلى جانب الحقوق العربية والإسلامية، فليس أمامهم سوى الاستعداد لتلقي رد سيكون حتماً، لا كما يشتهون أو يتصوّرن.
عماد سالم