دمشق 29 أيار عام 1945
د. سليم بركات
حين بدأت الحرب العالمية الثانية، عطّل الاستعمار الفرنسي الحياة البرلمانية في سورية، وأقام حكومة تأتمر بأوامره لوضع موارد البلاد وخيراتها تحت تصرف دول الحلفاء في مواجهة دول المحور، ومع كل الضغوط الاستعمارية الممارسة على الشعب العربي السوري لم ينس هذا الشعب أهدافه ومطالبه بالحرية والاستقلال، وبقي يضغط ويقاوم حتى اضطرت فرنسا للاعتراف باستقلال سورية في أوائل عام 1943.
وشهدت الفترة ما بين عام 1943-1945 استرداد الكثير من الحقوق، غير أن ثمة حقيقتين كبيرتين ظلت فرنسا تمانع في تسليمهما، وهما حق تشكيل جيش وطني سوري، وجلاء القوات الفرنسية عن الأراضي السورية، الأمر الذي أدرك من خلاله الشعب السوري بأن الاستقلال سيبقى مهدّداً ما دامت القوات الاستعمارية فوق أراضيه، وما دامت الحكومة الفرنسية تنافق وتكذب وتماطل.
وحين وجدت فرنسا نفسها في مواجهة مطالب الشعب العربي السوري لجأت إلى أسلوب المغامرة، وهي عازمة على عدم التسليم في تشكيل جيش وطني، ففي 6 أيار عام 1945، أنزلت فرنسا من مرفأ بيروت قوات فرنسية جديدة للتمركز في سورية ولبنان بنوايا احتلال البلدين من جديد، وعندما أدرك الشعب ذلك بدأ بتنظيم صفوفه مهيئاً نفسه لمعركة حاسمة مع الاستعمار الفرنسي، وفي خضم هذا الجو المتوتر عقد المجلس النيابي جلسة في 8 أيار عام 1945، فضح من خلالها نواب البرلمان نوايا فرنسا العدوانية ومخططاتها الاستعمارية تجاه سورية، وطلبوا من الحكومة أن تحدد مواقفها بصراحة تامة من تهديدات فرنسا، كما طلبوا من أفراد الشعب العربي السوري أن يكونوا على استعداد للمعركة النهائية الحاسمة.
تشكّلت في جميع المدن السورية قيادات وطنية أخذت على عاتقها تحرير البلاد، وفرض الجلاء بقوة الإيمان والحق و السلاح، وراحت المظاهرات تطوف شوارع المدن السورية، وقراها تنادي بخروج فرنسا، وتخليص البلاد من كل نفوذ فرنسي، وحدثت اشتباكات دموية بين القوات الاستعمارية وبين منظمات الشعب، بما في ذلك النواب، الذين حملوا السلاح واضعين أنفسهم تحت تصرف القيادة الوطنية، وكان موقف الحكومة مماثلاً لمواقف الشعب، وعقد المجلس النيابي اجتماعاً تاريخياً في 24/5/1945، أصدر من خلاله قراراً دعا فيه جميع المواطنين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و60 سنة إلى حمل السلاح للدفاع عن الوطن وتحريره، وما أن صدر هذا القرار حتى تصاعدت الاشتباكات مع القوات الفرنسية، وخاصة بعد إلقاء الجنود الفرنسيين إحدى المتفجرات على المجلس مساء 6 أيار.
وفي 8 أيار عام 1945، وهو اليوم الذي أعلنت فيه الهدنة وانتهاء الحرب العالمية الثانية، أخذت القوات الفرنسية بأسلحتها الثقيلة تجوب شوارع دمشق وباقي المدن السورية، وهي تتحرّش بأبناء الشعب وتستفزهم، الأمر الذي أدرك من خلاله السوريون أن هنالك خطة فرنسية لاحتلال البلاد عسكرياً، ليكون التصميم على المواجهة مهما بلغت التضحيات، ولما أدرك الفرنسيون هذا التصميم أصدر الجنرال الفرنسي أوليفيا روجيه، القائد الأعلى للقوات الفرنسية، بلاغاً في 22 أيار عام 1945، حدّد فيه سبل قمع الحركة التحررية للشعب السوري.
وفي 29 أيار وجّه إنذاراً إلى رئيس المجلس النيابي سعد الله الجابري يهدّده فيه بانتقام فرنسا من المواطنين السوريين الذين يعتدون على الجنود الفرنسيين، وطلب منه أن تقوم قوات الشرطة والدرك المرابطة حول المجلس بتحية العلم الفرنسي عند إنزاله عن دار أركان الحرب الفرنسية المواجهة للمجلس النيابي، الأمر الذي رفضه رئيس المجلس، وأمر ألا يستجاب له، ولما كان من المقرر أن يعقد المجلس النيابي جلسة في اليوم المذكور، فقد قرر الفرنسيون ضرب المجلس بالقنابل للقضاء على جميع النواب أثناء انعقاد الجلسة، وعندما أدرك رئيس المجلس النوايا الفرنسية أبلغ النواب بإلغاء الجلسة، وطلب من كل واحد منهم أن يلتحق بمنطقته الانتخابية ليناضل بين صفوف الشعب، وفي الوقت ذاته عقدت الحكومة السورية مع فريق من نواب المجلس اجتماعاً طارئاً في بيت أحد الوزراء بسبب التطويق الفرنسي لدار الحكومة، وبعد ذلك كانت القنابل الفرنسية تنهال على المجلس النيابي وعلى جماهير الشعب التي كانت تتظاهر ضد الاستعمار الفرنسي في شوارع دمشق، وبالتالي دخلت القوات الفرنسية إلى دار المجلس، فذبحت حاميتها من قوات الشرطة، وبعد عملية الذبح مثّلت بأجساد الشهداء، وقطعت أوصالهم إرباً إرباً، ولقد استبسلت حامية المجلس في الدفاع عن المجلس وعن نفسها حتى نفذت ذخيرتها، وهي تتساقط طالبة الشهادة الواحد تلو الآخر، إلى أن بلغ عدد شهداء هذه المجزرة 28 شهيداً، ولم يكتف الفرنسيون بذلك، بل نهبوا المجلس ووزارات الدولة، والدوائر الرسمية، والمؤسسات العامة، حتى دور العبادة لم تسلم من نهبهم وشرورهم.
وفي الوقت الذي كانت فيه حامية البرلمان تجابه نيران الحقد الفرنسي وسواطير جنوده، كانت دمشق تضرب بكافة أنواع الأسلحة في مختلف أحيائها، لتصبح ميدان معركة بعد أن شمل التدمير البيوت، والمدارس، والمستشفيات.. وفي صباح 30 أيار عام 1945 أصبحت دمشق وقد انقطعت عن العالم الخارجي، حتى تمكّن رئيس المجلس النيابي سعد الله الجابري من الوصول إلى بيروت والتوجه إلى العالم بخطاب من ساحة الشهداء تناقلته وكالات الأنباء العالمية ليتعرف العالم من خلاله على وحشية الاستعمار الفرنسي تجاه دمشق وباقي المدن السورية الأخرى، بعد أن امتد هذا العدوان الاستعماري الفرنسي ليشمل حمص وحماة وحلب وإدلب وجبل العرب واللاذقية، ولم تبق منطقة في سورية إلا وشملها هذا العدوان، ولكن الشعب كان بالمرصاد، وكان المنتصر والظافر في معاركه هذه، لا لسبب إلا لسبب واحد هو أن قضيته في مواجهة الاستعمار هي قضية عادلة، ولأنه كان مؤمناً بحريته وكرامته لم يدخر جهداً في سبيل تحرره.