لا تأثير استراتيجياً للضغط الأمريكي على إيران
الدكتور سليم بركات
يزداد الاهتمام العربي بالتصعيد العسكري الأمريكي في مواجهة إيران خوفاً من نشوب حرب في المنطقة تلقي بتبعيتها على العالم أجمع، ولاسيما بعد إرسال المزيد من التعزيزات العسكرية الأمريكية إلى منطقة الخليج، والتي يأتي في طليعتها حاملة الطائرات (لينكولن)، كما تترقب شعوب العالم تطورات ما يجري من خلال وسائل الإعلام والاتصالات الدبلوماسية، أبعاد هذا التصعيد وما ينتج عنه من مخاطر عسكرية واقتصادية، في الوقت الذي يسود فيه التوتر من احتدام المواجهة التي تتخذها إدارة ترامب ذريعة لتحقيق ما تصبو إليه من تغيير لسلوك إيران كما تدعي.
حالة اللاحرب واللاسلم التي تسود المنطقة أبرزت تكهنات متعددة، منها أن لا مصلحة للولايات المتحدة الأمريكية في إعلان مثل هذه الحرب حتى لا يختفي أحد أقطاب الحرب الباردة الساخنة وهو سلاح الطائفية الذي يفتك بالمنطقة لمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية وربيبتها إسرائيل، ومنها أن القلق السياسي في المنطقة يوفر لترامب أبرز الأمور المريحة لاجتذاب مليارات الدولارات الخليجية، ومنها أن الأمم المتحدة، روسيا، الصين، والاتحاد الأوروبي غير راضين عن المغامرة الأمريكية المكلفة والتي لا يحمد عقباها على مستوى العالم، حتى ولا البنتاغون الأمريكي يرى أن الحصاد سيكون للمصلحة الأمريكية، ومنها أن أساطيل الاستعراض التي يرسلها ترامب لا تأثير استراتيجياً لها على ميزان القوى وتوازن الرعب في المنطقة، وبالتالي لن تعود هذه الأساطيل بالفائدة على أمريكا سوى بصفقة مليارات جديدة يجيد ترامب ابتزازها من السعودية ودول الخليج، ومنها عدم توقع ترامب رفض إيران لسياسته البلطجية هذه، والتي جعلته يستجدي إيران للجلوس معه إلى طاولة الحوار لصياغة اتفاق نووي جديد يكسر من خلاله شوكة إيران في المنطقة وعلى مستوى العالم.
هذا التصعيد العسكري الأمريكي في مواجهة إيران قد يفضي إلى خيارين، الأول صدام عسكري من الصعوبة التكهن بمداه جغرافياً وزمانياً وهذا ما هو مستبعد، والثاني وهو الأكثر احتمالاً هو الإبقاء على أجواء التوتر على ما هي عليه، لخلط الأوراق وتشعيبها في اتجاهات متعددة؛ مما يمكن أمريكا من الإبقاء في حالة إدارة الأزمة وهي الحالة التي تحفظ ماء وجهها، وتمكن ترامب من ابتزاز أموال المنطقة.
إن إقدام ترامب على تصعيد العقوبات الاقتصادية الخانقة والمسلحة بالتصعيد العسكري في مواجهة إيران ليس سوى سعي لكسر هيبة النظام في إيران أمام شعبه، ومن ثم استدراجه لارتكاب المزيد من الأخطاء التي تربك الداخل الإيراني الذي يستهدفه ترامب، وهذا يعني أن أمريكا لن تقدم على أي مغامرة عسكرية في مواجهة إيران، حتى ولا على صعيد المنطقة بعد أن تلطخت سمعتها في الحرب على أفغانستان والعراق، ولو كانت قادرة على مثل هذه التجربة العسكرية لما لجأت إلى الخيار الاقتصادي بالحرب والذي هو خيار الضعفاء، الخيار الوحيد أمام المتخبط ترامب، كما يعني أن سياسة الوعد والوعيد بالضغط المستمر على إيران قد باءت بالفشل.
عندما تنصل الرئيس الأمريكي ترامب من التزامات الولايات المتحدة الأمريكية من خطة العمل المشتركة المعروفة بالاتفاق النووي الإيراني كان يظن أن قادة إيران سيهرعون للجلوس معه منكسرين على طاولة المفاوضات، لكن ما حدث العكس، حيث اتسم الموقف الإيراني بالرفض والمقاومة التي لم يكن يتوقعها ترامب، وباقي أفراد إدارته. وما من شك أن التزام إيران بالاتفاق على الرغم من نكوث الولايات المتحدة الأمريكية بالتزاماتها يتضمن قراراً إيرانياً بانتظار رحيل ترامب، وهذا ما يؤكده الواقع العالمي الذي ضاق ذرعاً بتصرفات ترامب الشيطانية، كما يؤكده الواقع الأمريكي على لسان البعض من الحزب الديمقراطي ممن يرغبون مواجهة ترامب في الانتخابات القادمة، وهم ملتزمون بإعادة الاعتبار للاتفاق بين إيران و 5+1 في حال انتخابهم، ومنهم بيرني ساندوز، وجون بايدن، واليزابيت وارن أشد المنتقدين لسياسة ترامب.
إيران في موقفها من الاتفاق النووي ليست وحدها، بل كل الأطراف المتبقية في هذا الاتفاق معها، والموقف الشاذ والوحيد هو الموقف الذي يمثله ترامب، وقد تصبر إيران حتى انتهاء المدة الرئاسية لترامب لحل مشاكلها مع أمريكا على الرغم من معاناتها الاقتصادية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الخضم هو هل يستطيع ترامب محاصرة النيران التي أشعلها على مستوى أمريكا والعالم، كي يتمكن من العودة إلى البيت الأبيض في العام القادم؟ للإجابة عن هذا السؤال نستطيع القول إنه يوجد صعوبة في ذلك، والسبب أنه ومنذ وصوله إلى البيت الأبيض وهو يتبع سياسة شفير الهاوية داخل أمريكا وخارجها، يهاجم معارضته بكل شراسة، دون التحلي بأدنى درجات اللياقة الدبلوماسية وحتى الأخلاقية. زد على ذلك ومن خلال جردة حساب على مستوى الإنجازات التي يتبجح بها أمام الشعب الأمريكي، لا نجد سوى إنجاز يتيم وهو ابتزاز دول العالم لتحسين الاقتصاد الأمريكي، مخترقاً بهذا التحسين قوانين الشرعية الدولية والقيم الأخلاقية، ليس للشعب الأمريكي فقط وإنما لشعوب العالم قاطبة.
لقد أشعل ترامب أكثر من أزمة في توقيت متزامن على مستوى العالم، وفي طليعة ذلك أزمات المنطقة والأزمة الفنزويلية، والحبل على الجرار، كما دخل الحروب التجارية مع دول العالم وعلى رأسها الصين، وهو بهذا السلوك يكون قد أدخل الاقتصاد الأمريكي مرحلة تكسير العظام، بسبب إدخاله في أزمات قد تعجز أمريكا عن حلها لصالحها، ولنأخذ بالاعتبار الكيفية التي تصرف فيها ترامب مع الصين كنموذج لسياسة حافة الهاوية التي يسلكها، حيث فرض الرسوم الجمركية عليها والتي تقدر بالمليارات، قبل وصول الوفد الصيني لجولة مفاوضات تجارية معه، ولما عارض معاونوه هذه السلوكية هدد بمضاعفتة لهذه الضرائب، الأمر الذي يؤكد أن حربه التجارية مع الصين قد تخرج عن السيطرة، دون أن يعير الاهتمام للقلق الذي سيصيب الأسواق العالمية جراء سياسته المتهورة هذه.
لم تتوقف ألاعيب ترامب في سياسته البهلوانية هذه على الصين وحدها، بل تعدت ذلك إلى روسيا، حيث بدأ يدخل خط المواجهة مع بوتين، وعلى وجه الخصوص مع المنعطف الحاد في السياسة الروسية تجاه أوكرانيا، ومن ثم مع كوريا الشمالية حيث انهارت كافة جهوده التفاوضية، وبالتالي لو أخذنا كل هذه الأزمات والحرائق التي أوجدها وأجج نارها ترامب على الصعيد الداخلي والخارجي الأمريكي، لوجدنا أن الولايات المتحدة الأمريكية على أعتاب أزمة سياسية اقتصادية داخلية قد تدفع إلى ترحيل نظام معقد وبدائي يمثله ترامب، الأمر الذي يؤكد إغلاق الشعب الأمريكي للبيت الأبيض في وجهه في الانتخابات الرئاسية القادمة.
بقي أن نقول: مع ذوبان جليد الحرب الباردة بزغت أفكار مثل تلاقح الثقافات والعالم قرية صغيرة، والتكنولوجيا تقرب المسافات، ومع سقوط برلين تفكك الاتحاد السوفيتي وبرزت أفكار ومقالات انتقلت بالعالم نحو تعبير واحد هو العولمة التي أصبحت فيما بعد اصطلاحاً يجسد منظومات كونية متكاملة، لكنه وفي التطبيق لا ينصرف إلى تبادل للقيم أو تواصل بين الأنماط الحضارية، أو تمازج بين الثقافات، وإنما ينصرف إلى قولبة العالم وفق قيم ومبادئ الثقافة الأمريكية المترافقة مع تفكيك النماذج الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في مختلف بلدان العالم، لإعادة تشكيلها وفق المقابل الأمريكي. ولما كانت التجربة العالمية في هذا المجال قد أثبتت استحالة هذا الاتجاه الأمريكي في قولبة العالم، فهذا يعني أن القوة والهيمنة الأمريكية ليست حتمية تاريخية، وإنما هي باتجاه الأفول، ويكون السبب بهذا الأفول الأمريكي استراتيجية ترامب في التعامل مع الأزمات العالمية والمزمنة والتي يأتي في طليعتها التصعيد مع إيران وباقي محور المقاومة في هذه المنطقة، ونحن لا نبالغ إذا أكدنا أن مهمة ترامب صعبة في هذه المنطقة، بسبب رفضها وحساسيتها مع إسرائيل التي يرعاها ترامب ويحافظ على وجودها وينفذ ما يمليه عليه قادتها، ضارباً عرض الحائط بالحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني وقوانين الشرعية الدولية.